مقالة خاصة: مراسل شينخوا عماد الدريملي: في غزة "كأنه يوم القيامة"
بقلم عماد الدريملي
غزة 16 أكتوبر 2023 (شينخوا) بعيد منتصف الليل يوم الخميس الماضي، ألقت المقاتلات الإسرائيلية التي لم تتوقف في سماء غزة ذهابا وإيابا عدة صواريخ على مبان في مدينة غزة، ما تسبب بانفجارات شديدة اهتز على إثرها بيتنا المكون من عدة طوابق، حيث أقطن أنا وعائلتي وأشقائي الستة وأسرهم.
ــ قصف كالزلزال
كان القصف يشبه إلى حد بعيد كما لو أن زلزالا طال المنطقة، بينما تتردد بين الفينة والأخرى أصوات إطلاق صواريخ من قبل نشطاء فلسطينيين تشبه إلى حد بعيد الرعد في فصل الشتاء.
ومع دوي القصف المتبادل، هرع أطفالي الثلاثة وزوجتي إلى المطبخ، الذي كنت قد حولته إلى مركز لعملي في متابعة الأحداث منذ بدء المواجهة الجديدة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في قطاع غزة يوم السبت السابع من أكتوبر الجاري.
وعلى الرغم من صعوبة إجراء أي اتصالات خلوية بعدما قصفت إسرائيل شركة الاتصالات الفلسطينية قبل أيام، إلا أنني تمكنت بعد عشرات المحاولات من التواصل مع المصادر والجيران للاستفسار حول ما يجري في الخارج.
ولكن قبل حصولي على أي إجابة، تذكرت والدي المسنين اللذين يعيشان في الطابق الأرضي من المنزل. فانتفضت مسرعا نحوهما حافي القدمين لأطمئن عليهما، خاصة وأنهما لا يستيطعان التحرك بسهولة، إلا أنني فوجئت بأشقائي وزوجاتهم يركضون على الدرج بوجوه شاحبة يريدون معرفة ما يجري.
لثوان معدودة، تبادلنا نظرات الاستفسار دون أن نتمكن من إجابة بعضنا البعض، إلا أننا جميعا ذهبنا نتفقد والدي اللذين اكتنفهما الخوف والقلق من شدة القصف حولنا.
عقب ذلك، تمكنت بصعوبة شديدة من الاتصال بالجيران، حيث قالوا إن القصف طال الشارع المجاور لنا وبداية الشارع الذي نقطن فيه، حينها شعرت بالخطر الشديد يقترب منا.
كمحترف في التغطية الصحفية على مدى سنوات طويلة في الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي، تيقنت ضمنيا أن ما يحدث ليس مجرد معركة ستنتهي قريبا كسابقاتها، وإنما أمر أكبر من ذلك بكثير بعدما تعرضت إسرائيل، التي طالما تفاخرت بقوتها وبجيشها لهجوم غير مسبوق ونادر في عقر دارها من قبل حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
ــ طلب الإخلاء
في ساعات الفجر الأولى من يوم الجمعة الماضي، هاتفني أحد الأصدقاء قائلا إن الجيش الإسرائيلي طلب من سكان شمال قطاع غزة ومدينة غزة إخلاء منازلهم والتوجه جنوبا عند منطقة تسمى وادي غزة، وهو جسر يربط بين مدينة غزة والمنطقة الوسطى للقطاع المحاصر.
وبعد مراجعة وفحص من عدة مصادر أخرى، تبين أن البيان صحيح، فقمت بالاتصال بصديق يعمل مستشارا في وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) وسألته "هل أبلغهم الجيش بالأمر؟ هل هناك استعدادات فعلية للإخلاء؟ هل هناك أماكن يذهب إليها الناس؟" كان الرد بالنفي، وهو يقول "لم يتم إبلاغنا ولم تبلغ أي جهة دولية أو حتى الأمم المتحدة".
وفي خضم التفكير في تغطية عمليات الإخلاء، انتبهت أن القرار يشملني وعائلتي في مدينة غزة. ومع اشتداد القصف وتكراره من حولنا وبمناطق مختلفة في قطاع غزة، بدا أن هناك جدية في الأمر، وعلي أن أسابق الزمن للمغادرة مع عائلتي.
قاوم والدي المسن لساعات طلباتنا لإخلاء المنزل، لكنه تراجع عن موقفه الرافض أمام نظرات الخوف والرعب في عيون أولاده وأحفاده. وبعد نقاش طويل، قررت أخيرا باعتباري الأكبر سنا في العائلة أن أتخذ قرارا مصيريا بالرحيل إلى المناطق الجنوبية من القطاع.
لم يكن سهلا أن أخلى منزلا به من الذكريات الكثيرة، فضلا عن أنه "شقاء عمر" عائلتي. لكن في النهاية، جمعنا كل ما هو مهم من أوراق وجوازات السفر وأشياء ثمينة وبدأنا إخلاء المكان مع كامل أفراد عائلتي إلى مأوى جديد.
ــ مشاهد في الطريق
كان الإخلاء في الواقع محاولة مجهولة المصير للحفاظ على حياتنا في منطقة يخيم الموت فيها بشدة مع تواصل هجمات إسرائيل الجوية المكثفة.
حملنا القليل من المقتنيات ومياه الشرب وبعض الملابس والفرشات والأغطية وبعض الأواني، قبل أن تتحرك قافلة سياراتنا الأربع وسط دوي القذائف الإسرائيلية وصواريخ حماس في لحظات مرعبة بدا فيها الموت يطاردنا ونحن منه هاربون.
لم نكن وحدنا في الطريق الساحلي المتجه إلى الجنوب بل كانت هناك حركة انتقال ونزوح واسعة متصاعدة من محافظتي غزة وشمال القطاع.
وفي الطريق هزت انفجارات قريبة المنطقة. وبعد دقائق، صادفنا إحدى سيارات الإسعاف تقل فتاة صغيرة وامرأة مصابة أثناء محاولتهما الفرار من دون أن نتأكد مما حدث لهما، لكنهما كانتا من بين عشرات الآلاف الأشخاص الذين نزحوا.
كنا نسير ببطء وقد أضأنا إشارات السيارات الأمامية حتى نظهر أننا مدنيون راحلون إلى جنوب قطاع غزة.
وخلال الرحلة الشاقة، شاهدنا آلاف الأشخاص يستقلون سيارات مدنية وشاحنات وعربات تجرها حيوانات وحتى سيرا على الأقدام، وهم ينزحون أفواجا، وقد حملوا أمتعتهم وأغراضهم الشخصية على أكتافهم أو على أسقف السيارات وقد تدلت وتطايرت أجزاء منها بسبب تكدسها لدرجة علق أحدهم من هول المشهد قائلا "كأنه يوم القيامة".
وكان الجيش الإسرائيلي قد أعلن عن تخصيص ممرين آمنين لعبور سكان شمال القطاع باتجاه جنوبه، الأول قرب ساحل غزة، والثاني عبر طريق صلاح الدين العابر بين شمال القطاع وجنوبه والذي يبلغ طوله 40 كيلو مترا.
وقد شهد ممر طريق صلاح الدين مقتل أكثر من 70 شخصا بينهم أطفال نتيجة غارات إسرائيلية طالت عائلات كانت تنزح إلى الجنوب، بحسب جهات ومسؤولين فلسطينيين في غزة.
وفي منتصف الطريق إلى الجنوب، صرخت امرأة فقدت أقاربها أمام كاميرات الصحفيين بعدما اضطرت للنزوح، "ماذا فعل الأطفال والناس العاديون ليستحقوا هذا؟ هل هم من المقاتلين أم أطلقوا صواريخ".
وتابعت، والدموع تغطي وجهها، قائلة "قتلت ابنة أخي وعائلتها بأكملها والناجية الوحيدة هي فتاة تبلغ من العمر عامين. هل هذا أمر مقبول؟"
ورغم أن الأمم المتحدة وصفت أمر الإخلاء الإسرائيلي بأنه "مستحيل" وانتهاك لقواعد الحرب، تابعتُ "مهمة إنقاذ عائلتي".
ــ مأوى جديد
وصلنا إلى وادي غزة، وهو جسر صغير ضيق يفصل شاطئ مياه البحر المتوسط واليابسة وتتجمع بالقرب منه محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي اختلطت روائحها الكريهة برائحة البارود والقذائف والدخان لتزكم الأنوف.
ورغم ذلك، توقفت قليلا لانتظار باقي القافلة وأجريت اتصالات مع باقي زملائنا في المكتب للوصول تباعا قبل أن ننطلق مجددا إلى دير البلح وسط قطاع غزة.
وفي مدخل المدينة كانت مدرسة الإيواء التي افتتحتها الأونروا مكتظة، فيما افترش العشرات من النازحين الأرض حول المدرسة وداخلها خشية القصف حتى أننا لم نستطع التقدم للوصول.
وفي ظل هذا الوضع، قررت توزيع أنفسنا إلى مجموعات أصغر وأجريت اتصالات بزملاء وأصدقاء قدامى لطلب أماكن صالحة للإقامة سواء كانت منازل أو محلات فارغة قبل أن نفترق، جزء في دير البلح وآخر في خانيونس وثالث في رفح مع الحفاظ على التواصل والتأكد أن المكان الذي سنذهب إليه آمن نوعا ما.
وفي دير البلح، وصلت أنا ووالدي وعائلتي وأحد أشقائي إلى بيت صديق لي أفرغ لنا الطابق الأرضي لنقيم فيه رافضا أي عروض مادية قدمتها له.
وجميع المحلات في دير البلح مغلقة. وبالكاد تستطيع أن تحصل على خبز من المخبزين الوحيدين فيها، حيث تتكدس الناس بالعشرات وربما المئات، فيما انقطعت الكهرباء والاتصالات عن المدينة وباقي أنحاء القطاع وأغلقت محطات البترول أبوابها بسبب توقف إمدادات من مصر وإسرائيل.
وما زاد الطين بلة، هو عدم توفر مياه صالحة للشرب ولا حتى مياه للاستعمال اليومي للنظافة الشخصية ونظافة البيت.
ويقول مسؤولون طبيون ومنظمات دولية إن الوضع الإنساني بات على حافة الهاوية، إذ فرضت إسرائيل في اليوم الأول من هجومها على غزة إغلاقا شاملا جعل من المستحيل إدخال الإمدادات إلى القطاع.
وبموجب ذلك الإغلاق، لا تتوفر إمدادات الكهرباء أو الماء أو الاحتياجات الأساسية، وواقع الأمر في قطاع غزة أن هنالك نقصا في كل شيء.
ولليوم الثالث على التوالي، أنا أقيم في دير البلح. وشيئا فشيئا مع نفاد جميع المستلزمات الأساسية كالطعام والشراب والكهرباء والإنترنت، وجدت نفسي وعائلتي نعيش حياة بدائية.
فاليوم مثلا، فشلت كل محاولاتنا للحصول على "ربطة خبز" بسبب نفاده سريعا في الأفران جراء زيادة الطلب. فوجدت في طريق العودة حانوتا يبيع الدقيق فاشتريت 20 كيلوجراما وعزمت أن نقوم بإعداد الخبز بأنفسنا يدويا لحين أن تخف الأزمة.
لكن المشكلة أنه في حال نفد الغاز الموجود في المنزل حاليا، فسنضطر لطهي الخبز على نار الحطب.
وللتغلب على مشكلة الكهرباء، قمت بشراء بطارية وجهاز تحويل لها لتوليد الكهرباء عبر شحنها بالطاقة. ولأنه لا يوجد كهرباء، أقوم بشحنها بإيصالها بمرابط خاصة مع بطارية سيارتي لمدة ربع ساعة لأستطيع شحن هاتفي واللاب توب. وهكذا تعمل لمبات المنزل.
بالنسبة لي، كل شيء يهون حتى صعوبة الحياة. لكن، أكثر ما أخشى منه كباقي سكان قطاع غزة هو الموت الذي يحوم فوقنا وحولنا ويحصد أرواح المئات كل يوم...