(صوت الجنوب) وجهة نظر: أوروبا والخروج من "عباءة أمريكا الأمنية"... التحديات والاحتمالات

(صوت الجنوب) وجهة نظر: أوروبا والخروج من "عباءة أمريكا الأمنية"... التحديات والاحتمالات

2025-03-21 05:22:46|xhnews

بقلم: محمد بدري عيد

يواجه الأمن الأوروبي لحظة تاريخية فارقة، على ضوء المرحلة الحرجة الراهنة التي يمر بها التحالف عبر الأطلسي بين القارة العجوز والولايات المتحدة الأمريكية منذ تنصيب دونالد ترامب وعودته إلى البيت الأبيض في يناير 2025، بعدما فاز في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في الخامس من نوفمبر 2024.

وبالرغم من أن العلاقات الأوروبية - الأمريكية شهدت فترات من المد والجزر، على مدار عقود، بما في ذلك خلال ربع القرن الأخير عقب انتهاء الحرب الباردة مطلع تسعينيات القرن العشرين، إلا أنها لم تصل قبل ذلك إلى المستوى الحالي من "فجوة عدم الثقة"، إلى الحد الذي تجاوز مجرد التباينات في المواقف السياسية تجاه قضايا معينة بسبب المصالح المتعارضة أحياناً، إلى المس بجوهر العلاقات بين التحالف الأطلسي، ألا هو "أمن أوروبا"، والذي طالما كان محصنا من أية اختلافات، ناهيك عن الخلافات بشأن ضرورات وأولويات ضمان واشنطن لهذا الأمن، وآليات حمايته تحت المظلة الدفاعية الأشمل ممثلة في حلف شمال الأطلسي (ناتو).

-- القارة العجوز ... "لحظة اختبار ونقطة تحول"

لم تشهد أوروبا تصاعد الجدل والمخاوف على مستقبل أمنها الإقليمي، كما هو الحال في الوقت الراهن، بما يذكر بالفترة التي أعقبت انتهاء الحرب الباردة.

فقد شكلت معضلة الأمن الأوروبي "الشغل الشاغل" لدوائر صنع القرار الرسمية ومراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية في العواصم الأوروبية طوال عقد التسعينيات وحتى مطلع الألفية الثالثة، وتحديدا حتى هجمات 11 سبتمبر 2001، التي حولت الأنظار نحو "الأمن الأمريكي".

وظلت قضية "الأمن الأوروبي" تتصدر الدراسات والتحليلات واهتمامات المجتمع البحثي والأكاديمي الأوروبي وغير الأوروبي طول هذه الفترة، اذ تم كتابة عشرات إن لم يكن مئات الرسائل العلمية من الماجستير والدكتوراه حول هذه القضية المحورية.

ومن جديد تعود معضلة الأمن الأوروبي ببعدها الاستراتيجي، بعدما ظلت طوال العقدين الأخيرين، تركز على أبعاد تكتيكية أقل تهديداً لأمن دول القارة العجوز، من قبيل: الهجرة غير الشرعية، وصعود اليمين المتطرف، والتحولات الاجتماعية داخل أوروبا، والتحديات الاقتصادية المتعددة، مثل: ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، والبيئة، والطاقة المتجددة وغيرها.

وقد تفجرت المخاوف الأمنية الأوروبية أخيراً، على وقع التحول الدراماتيكي الذي أظهرته إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب - بشكل علني ومفاجئ وقاسٍ - بشأن موقف واشنطن الداعم تجاه الأزمة الأوكرانية.

وتبدى ذلك في الخطاب والسلوك السياسي الأمريكي على أعلى مستوى، كما ظهر ذلك جلياً في المشادة الكلامية العاصفة وغير المسبوقة تاريخياً، في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض يوم 28 فبراير 2025، بين الرئيس ترامب ونائبه جيه دي فانس من جهة وبين الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من جهة أخرى.

فقد وضع هذا الحدث وما تبعه من تطورات مفاجئة، أوروبا أمام "كابوس مرعب" من احتمال أن يؤدي الانقلاب في الدعم الأمريكي لأوكرانيا في حربها ضد روسيا، إلى تداعي "البديهيات" التي ظلت راسخة وممتدة على مدى عقود بشأن المظلة الأمريكية لاسيما النووية، لحماية الأمن الأوروبي، بما من يعنيه ذلك من تغيير توازن القوى الأوروبية في مواجهة روسيا الإتحادية.

فلم يكتف ترامب بما حدث في البيت الأبيض مع زيلينسكي، بل أتبعه بعدة أمور أخرى، زادت من مخاوف العواصم الأوروبية، من اتساع فجوة عدم الثقة في التحالف الأطلسي الغربي.

ومن أبرز التطورات السلبية التي اتخذها ترامب تجاه حلفاء واشنطن الأوروبيين التقليديين، ما يلي:

- تجميد المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا ووقف إمدادها بالمعلومات الاستخباراتية (والتي تم التراجع عنها لاحقا)، ويعني ذلك الحد من قدرة كييف على مواصلة الحرب بكفاءة ضد موسكو، ومنح الفرصة للأخيرة لتحقيق انتصارات ميدانية حاسمة تعزز موقفها التفاوضي في أية عملية سلام مقبلة، وهو ما اعتبرته أوروبا بمثابة ورقة ضغط تمارسها واشنطن على أوكرانيا للقبول بوقف إطلاق النار، مما يؤدي إلى فرض تسوية تمنح موسكو مكاسب سياسية، وهو ما قد يفضي إلى اتفاق سلام غير متوازن يهدد الأمن الوجودي لأوروبا على المدى الطويل.

- تبني ترامب الموقف الروسي العام بكل شروطه فيما يخص إنهاء الحرب.

وقد قيمت العواصم الأوروبية، الموقف الأمريكي الجديد، من منظور البعد الاستراتيجي لأوكرانيا في معادلة الأمن الأوروبي.

ذلك أن التحول في موقف الولايات المتحدة تجاه الأزمة الأوكرانية، خلافاً لسياسة إدارة الرئيس جو بايدن، التي وفرت دعما قوياً لأوكرانيا على مدى 3 سنوات من الحرب، قد ينبئ بتحولات محتملة أعمق في الاستراتيجية الأمريكية تجاه الأمن الأوروبي وليس فقط من زاوية الصراع بين موسكو وكييف.

- شن حرب تجارية ضد أوروبا، من خلال فرض رسوم جمركية عالية على السلع الأوروبية الوارد إلى الأراضي الأمريكية (وصلت في بعض الحالات أكثر من 200 %)، وشن تصريحات عدائية، وصلت إلى حد وصف ترامب، الاتحاد الاوروبي بأنه "أنشئ من أجل استغلال الولايات المتحدة"، وتأكيده على أن واشنطن "ستكسب هذه المعركة ضد أوروبا".

وفي المقابل، لوحت الدول الأوروبية، وبخاصة فرنسا وبريطانيا، بأنها ستفرض رسوما مضادة على الواردات الأمريكية.

على ضوء ذلك، أدركت أوروبا أن مستقبلها كقارة آمنة ومستقرة ومزدهرة، بات على المحك، وأنها أصبحت مطالبة الآن أكثر من أي وقت مضى، بتنظيم جهودها الدفاعية وتعزيز قدراتها العسكرية.

إذ أن من شأن الأزمة الحالية غير المعتادة وغير المسبوقة عبر ضفتي الأطلسي، أن تُلقي بظلالها على مستقبل "الناتو"؛ وفي حال تراجع الدور الأمريكي في الحلف، فقد تجد أوروبا نفسها مضطرة إلى إعادة هيكلة استراتيجياتها الدفاعية، سواء عبر تعزيز التعاون الأمني داخل الاتحاد الأوروبي أو حتى التفكير في تطوير قدرات دفاعية مستقلة عن الناتو، ما قد يؤدي إلى تغيير جذري في طبيعة التحالفات الغربية، وهو ما يعني عملياً انهيار الهيكل الأمني الذي تم إرسائه في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، والذي اعتمد بشكل رئيس على المعتمد دعم الولايات المتحدة.

ولذلك، كان رد الفعل الأوروبي على مشادة ترامب وزيلينسكي سريعًا، حيث أبدى القادة الأوروبيون قلقهم من موقف واشنطن الجديد ودعمهم اللامحدود لأوكرانيا في مواجهة روسيا.

وفي تقديرنا المتواضع، أن هذه المواقف الداعمة والسريعة، تعكس إدراكًا متزايدًا لحتمية تحمل أوروبا مسؤولية أكبر في دعم أوكرانيا، ليس فقط حفاظا على سيادة واستقلال الأخيرة، ولكن بدرجة أكبر من أجل بعث رسالة ردع جماعية لحماية الأمن الأوروبي ضد أية تهديدات روسية مستقبلية محتملة.

-- مستقبل الأمن الأوروبي

الأمر المؤكد الذي تظهره التطورات الأخيرة، أن أمريكا لن تكون "قوة أوروبية" للابد، وانه أجلا أو عاجلاً يتحتم على القارة العجوز أن تضطلع بدور أكبر في تحقيق أمنها القاري بأقل دعم أو مشاركة أمريكية، سواء عسكرياً أو مالياً.

ويمكننا رصد مؤشرات واضحة من خلال الأزمة الأخيرة، تبين أن الدول الأوروبية، وبخاصة عواصم الترويكا في باريس وبرلين ولندن- عازمة على اتخاذ خطوات عملية في هذا الاتجاه، ومن ذلك على سبيل المثال :

- اقتراح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بضرورة أن يكون هناك نقاش استراتيجي جماعي بشأن مظلة نووية أوروبية مستقلة بعيداً عن نظيرتها الأمريكية، مشددا في 5 مارس الجاري، على أن الردع النووي الفرنسي، لعب ويمكنه ان يلعب، دورا في الحفاظ على السلام والأمن في أوروبا.

- إعلان كل من ألمانيا والمملكة المتحدة عن زيادة مطردة في ميزانيتها العسكرية وانفاقها الأمني خلال السنوات المقبلة، بنسب مئوية كبيرة نسبياً مقارنة بما كانت عليه على مدار ربع القرن الأخير.

- أعلنت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين، في 12 مارس الجاري، عن خطة لإعادة التسليح وتعزيز القدرات الدفاعية الأوروبية، بقيمة 800 مليار يورو، مؤكدة أن "زمن الأوهام ولى" وانه يجب على أوروبا الاعتماد ذاتها في حماية أمنها.

لكن التحدي الماثل في هذا السياق، هو مدى قدرة الدول الأوروبية على الالتزام توفير التمويل اللازم لتنفيذ هذه الخطة، لاسيما بالنظر إلى تراجع معدلات النمو الوطنية، وتحقيق عجز في الميزانيات العامة لغالبية دول الاتحاد الأوروبي.

أما التحدي الآخر الذي يواجه إعادة تسليح أوروبا، فيتمثل في أن دول الاتحاد ستكون مطالبة بتوفير ما لا يقل عن 300 ألف جندي إضافي، ومن أجل تحقيق ردع أوروبي ذاتي بدون دعم أمريكي.

ويتطلب توفير هذا العدد الكبير من القوات، إعادة تفعيل قوانين وآليات التجنيد الإلزامي في عدد من الدول الأوروبية التي كانت قد الغت هذا النظام عقب انتهاء الحرب الباردة، فعلى سبيل المثال علقت فرنسا خدمة التجنيد الإجباري وخفض حجم قواتها المسلحة بأكثر من الثلث منذ تسعينيات القرن الماضي.

وقد يستغرق هذا الأمر بعض الوقت؛ بسبب ما قد تواجه هذه الخطوة من معارضة من قبل الرأي العام في تلك الدول، ناهيك عن تعقد الإجراءات التشريعية وتعددها في هذا الخصوص.

ومن المؤشرات الدالة في هذا السياق لبيان صعوبة هذا التحدي، ما أظهره استطلاع للرأي أجرته مؤسسة ((غالوب)) في عام 2024، وأعادت نشر نتائجه أخيرا وكالة أنباء ((يورنيوز)) في 11 مارس 2025.

إذ يبين الاستطلاع أن 32 % فقط من مواطني الاتحاد الأوروبي مستعدون للدفاع عن بلادهم في حالة الحرب، وكانت النسب أقل من ذلك في بعض دول الاتحاد 14 % في إيطاليا و23 % في ألمانيا و 29 % في إسبانيا.

-- صفوة القول:

أوروبا 2025 لم تعد كما كانت قبل هذا التاريخ منذ انتهاء الحرب الباردة، من حيث "الاعتماد المطمئن" غير القلق على الدعم الأمريكي المخلص غير المشروط لحماية أمنها.

لكن في الوقت ذاته، من غير المرجح أن تتخلى أوروبا - كلياً وبصورة آنية فورية - عن مظلة الحماية الأمريكية؛ نظراً للتحديات المالية والسياسية واللوجيستية والعسكرية، التي تواجه التحول الكامل للاعتماد على الذات في حماية الأمن الأوروبي، بالإضافة إلى عنصر المفاجأة في بوادر تحول الدعم الأمريكي منذ بداية الولاية الرئاسية الثانية للرئيس دونالد ترامب، والطابع الدراماتيكي والسافر لهذا التحول.

لذلك؛ في تقديرنا المتواضع، فإن السيناريو الأكثر واقعية، يتمثل في أن تُبقي أوروبا على تحالفها الأمني الاستراتيجي مع الولايات المتحدة في المستقبل المنظور، وأن يترافق مع ذلك التنفيذ التدريجي لخطة الاعتماد على الذات في صون الأمن الأوروبي.

وربما يعزز من هذا الاستنتاج، عدد من الشواهد التي رصدناها في مضامين الخطاب السياسي الرسمي الأوروبي، والذي بدأ يغلب عليه طابع التهدئة والعقلانية في مواجهة الخطاب العدائي لترامب، حيث أكد كبار المسئولين في المفوضية الأوروبية، خصوصا عقب رفع الرسوم الجمركية من جانب واشنطن، على أن أمريكا تبقى "حليفة أوروبا".

وبناءً عليه، يمكننا القول بقدر عالٍ من الطمأنينة الاستراتيجية أن: الولايات المتحدة ماتزال "حليفة أوروبا" ويرجح أن تبقى كذلك لعقود قادمة، لكن الإدراك الاستراتيجي الذي لا تخطئه عين ملاحظ سياسي حصيف، وتعززه معطيات الواقع، يؤكد أن أمريكا لم ولن تعود "قوة أوروبا".

-- ملحوظة المحرر: الدكتور محمد بدري عيد، هو خبير العلاقات الدولية والأمن القومي في مركز دراسات الخليج والجزيرة العربية في جامعة الكويت.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة آراء وكالة أنباء ((شينخوا)).

الصور