بقلم :شيويه تشينغ قوه (بسام)
بكين 25 ابريل 2017 (شينخوانت)نشرت صحيفة الشروق في أول إبريل الجاري مقالة بعنوان "أشقاؤنا المنسيون" للأستاذ الكبير فهمي هويدي، حيث انتقد قانونا جديدا أصدره برلمان إقليم شينجيانغ الواقع في غربي الصين، قانونا يحظر 15 ظاهرة ذكر الأستاذ هويدي بعضها (وبشكل غير دقيق)، ومنها إطلاق اللحية غير الطبيعية، وارتداء البرقع في الأماكن العامة، وزواج أو طلاق على الطريقة الدينية دون إتمام إجراءات قانونية، وعرقلة النشاطات الثقافية والترفيهية، ورفض أو منع متابعة الإذاعة والتلفزيون وتلقي الخدمات العامة ... وهي ظواهر تصب في خانة التطرف الديني كما تراها حكومة شينجيانغ المحلية، بينما يعتبر الأستاذ هويدي القانون الجديد لحظرها "أحدث حلقات مسلسل القمع الذى يتعرض له مسلمو الصين".
وبعد قراءة المقالة، وجدت نفسي مدفوعا لتسجيل بعض الملاحظات حولها، لأنها في رأيي تحتوي على معلومات خاطئة وبالتالي أحكام جائرة. ولكن قبل ذلك أحب أن أشير أنني كنت، ومازلت، أكن احتراما كبيرا للأستاذ هويدي منذ قراءتي كتابه الشيق والمهم بعنوان "الإسلام في الصين" (وإن لحق الكتاب بالصين بعض الجور كما اعترف به الأستاذ نفسه)، وخاصة أنه زار جامعتي أثناء زيارته للصين قبل ربع قرن من أجل تأليف الكتاب والتقى بأستاذي المؤرخ المرحوم عبد الرحمن ناجونغ، وسجل في الكتاب أحاديث مهمة بينهما حول تاريخ العلاقات الصينية العربية.
الملاحظة الأولى هي أن الأستاذ هويدي، يبدو لي، لا يعرف كثيرا عن خلفيات إصدار القانون المذكور، التي تتمثل في تنامي ظاهرة التطرف الديني في شينجيانغ في السنوات الأخيرة. فقد شهد هذا الإقليم، ذو الثقافة العريقة في حب أفانين الحياة، ظواهر غريبة في العقد الأخير لم يختبرها على مر التاريخ. ففي جنوب الإقليم، أُجبرت النساء بل الصبايا أيضاً، على ارتداء الجلباب الأسود والبرقع وترك العمل خارج المنزل. وظهرت موجة عارمة في تشديد التفرقة بين الحرام والحلال. فبين مياه الشرب وأوراق الكتابة ما هو حلال وحرام، ومتابعة الإذاعات والتلفزيونات الحكومية حرام، والموسيقى والغناء حرام، والرقص في الزفاف والبكاء في المأتم، بل حتى الأدوات الكهربائية التي توفرها الحكومة لمساعدة الفقراء، هي كلها «حرام»... أما المعارض لهذا التشدد، سواء أكان من أهل الويغور أو غيرهم، فيعتبر كافراً يستحق عقوبة قد تصل إلى الإعدام! ولم يعد قتل الإنسان جريمة في نظر البعض، لمجرد أن المقتول «كافر» أو أنه جزء من قومية «ظالمة» أو رعية في نظام «قامع»! ومن الواضح أن هذه الأفكار الظلامية هي الأفكار نفسها التي تؤمن بها التنظيمات المتطرفة والإرهابية التي تنتشر في عالمنا اليوم كوباء العصر. ونتيجة لهذه الأفكار وقعت العديد من الحوادث الإرهابية في داخل الإقليم وخارجه في السنوات الأخيرة.
والملاحظة الثانية أن الأستاذ هويدي وقع في بعض الأخطاء عندما تحدث عن تاريخ شينجيانغ، حيث اعتبر أنها "المقاطعة التى تعرف تاريخيا باسم تركستان الشرقية وقد ضمتها الصين رسميا فى عام ١٩٤٩، بعد مناوشات واحتكاكات استمرت طوال القرن الثامن عشر." ويدرك القارئ الجدّي للتاريخ الصيني أو تاريخ آسيا الوسطى أن ذلك الإقليم – الذي سمي في تاريخ الصين القديم بـ «شي يو» أي «المناطق الغربية»، كان تحت الحكم الصيني منذ عهد الهان الملكي الغربي (دام من عام 206 قبل الميلاد إلى عام 220 الميلادي)، وأطلق عليه اسم شينجيانغ أي «الحدود الجديدة» مختصرا للتعبير «أرض قديمة تم استرجاعها جديدا» في عام 1757 في عهد الإمبراطور تشيان لونغ في عصر تشين الصيني، أما مصطلح «تركستان الشرقية»، فهو تعبير اخترعه السيد Nikita Bichurin المستشرق الروسي ذو التوجه الاستعماري في القرن التاسع عشر لتسمية الأجزاء الجنوبية للإقليم.
والملاحظة الثالثة أن رواية الأستاذ هويدي عن حال المسلمين في الصين، الذين وصفهم "بمواطنين من الدرجة الثانية" لهي رواية مغايرة تماما للحقيقة. ويكفي أن أذكر السياسات التفضيلية التي طبقت في الصين منذ تسعينات القرن الماضي لصالح الأقليات القومية، بما فيها القوميات الإسلامية العشر، مثل التساهل في المعاملات القضائية، والمرونة في تنظيم النسل، وتخفيض درجات قبول الطلاب الجامعيين وغيرها، إلى حد أن بعض المتطرفين من قومية الهان الأغلبية يشكون من عدم المساواة بين القوميات لمصلحة الأقليات! ولعله من المفيد أيضا أن أقتبس هنا الشهادة التي أدلى بها رئيس الجاليات العربية في الصين أحمد اليافعي لقناة الجزيرة: "لم نلمس خلال العقدين الماضيين أي انتقاص من حقوقنا وكرامتنا، بل أكثر من ذلك نشعر أن الصين وطن ثان لنا ولأبنائنا في ظل الأزمات التي تعصف بوطننا العربي" (راجع تقرير الجزيرة نت بتاريخ 26 سبتمبر 2016). وإذا كان هذا هو حال المسلم الأجنبي في الصين، فبأي منطق تمارس دولة الصين سياسات القمع والاضطهاد ضد مواطنيها من المسلمين؟ أقول ذلك ولا أنفي أن هناك مشكلات كثيرة في سياسات الصين وممارساتها المتعلقة بالأقليات القومية ومنها القوميات المسلمة، مما يتطلب مزيدا من والإصلاح التحسين.
والملاحظة الأخيرة هي أن أكثر ما يثير انتباه وسائل الإعلام العربية (والغربية) في القانون المذكور هو ما يتعلق بحظر اللحية والنقاب، الأمر الذي يذكرني بدراسة مقارنة قمت بها قبل سنوات لثلاثية "بين القصرين" لنجيب محفوظ وثلاثية "التيار الجارف" للأديب الصيني الكبير باجين، اللتين بدأتْ أحداثهما فيما قبل مئة سنة تقريبا. وعرفت من خلال الدراسة أن مصر والصين كانتا تتشابهان إلى حد كبير في بعض التقاليد: فبينما كان مفروضا على المرأة المصرية ارتداء البرقع والنقاب، كان مفروضا على المرأة الصينية تحجيم القدمين بلفائف قماشية، ويفتخر الرجل في كلا المجتمعين بأن امرأته لا تخرج من المنزل إلا محمولا على النعش إلى القبر. وكانت اللحية رمز تدين للرجل العربي، مثلما كانت الضفيرة رمز ولاء الرجل الصيني لحكم أسرة تشين الملكية. أما اليوم، فلم تعد الصين بلاد لفائف القدم أو ضفيرة الرجل مما يقترن بصورة "رجل آسيا المريض" قبل مائة عام تقريبا، بل لم تعد "أكثر بلاد العالم عزلة وتفردا، وأضخم وأغرب محيط بشري عرفه التاريخ" كما وصفها الأستاذ هويدي في كتابه "الإسلام في الصين" قبل ربع قرن، إنما خطت خطوات جبارة في تطوير الصناعة وإبتكار العلوم وغزو الفضاء لتصبح ثاني أكبر اقتصاد في العالم وتحتل مكانة بارزة في صفوف الدول العظمى، رغم تحديات كبيرة تواجهها. أما في العالم العربي، فالحديث حول اللحية والنقاب ما زال ساخنا بعد أكثر من مائة سنة من إنطلاق أفكار إصلاح الدين وتحرير المرأة، صحيح أن هناك أناسا يزعمون أن اللحية والنقاب من علامات الهوية الإسلامية، ولكني شخصيا أميل إلى رأي الشاعر أدونيس: "هل يعقل تقزيم الإسلام، هو الذي كان منذ قرون عديدة، رمزا للإبداع وللإشعاع، في هذه الشكلية السطحية لإعلان العزلة والانغلاق أمام شعوب العالم؟"
بلغني، وأنا أكتب هذه المقالة، خبر وقوع تفجيرين بكنيستي الاسكندرية وطنطا، ويعزز هذا الخبر المحزن قناعتي بأنه ينبغي على الصين ومصر، الوقوف في خندق واحد ضد التطرف والإرهاب، العدو المشترك للعصر وللإنسانية.
*شيويه تشينغ قوه (بسام) هو باحث صيني للشؤون العربية ومدير مركز الشيخ زايد للغة العربية والدراسات الإسلامية في جامعة الدراسات الأجنبية ببكين.