بقلم الدكتور: محمد أحمد عيد
باحث في الشؤون الاجتماعية والثقافية
بكين 30 يناير 2018 (شينخوانت) أول ما وطئت قدمي بكين عام 1999 قادما من دمشق وكنت حينها طالبا أحضر للدراسات العليا في جامعة بكين؛ وأذكر تماما كيف استقبلني مندوب مكتب الطلبة الأجانب في المطار وقتئذ قائلا: من أين أتيت؟ فقلت من دمشق، فابتسم على الفور وقال لي: أنا درست في جامعتها اللغة العربية ,احبها حبا جما ولها ذكريات في قلبي لا تنسى، واسهب في الحديث عن دمشق وشوارعها واسواقها وقلعتها وسورها وجبل قاسيون المطل عليها، كما تحدث عن أنواع الطعام والحلويات والمعجنات اللذيذة التي تذوقها أيام دراسته، كما تغنى بنهر بردى ومياهه العذبة وحدائق دمشق الغناء وطيبة أهلها وكرمهم ولطفهم، فشعرت في تلك اللحظات بالفخر لأنه يتكلم عن أجمل مدينة في بلدي التي ولدت وترعرعت بها وقضيت فيها أيام الطفولة والصبا، وماهي إلا دقائق معدودة حتى وصلنا إلى أحد المطاعم قرب الجامعة وأذكر حينها انه كان مطعما للبط البكيني الذي تذوقته هناك لأول مرة في حياتي وأحببت طريقة شوائه وتقديمه لنا، وحاولت ان أقارن الطعم مع الدجاج المشوي على الفحم الذي تشتهر به مطاعم دمشق؛ إلا ان الطعمين مختلفان لكن كلاهما لذيذان، وتعرفت ذلك اليوم على العديد من الاطباق الصينية والمأكولات الأخرى وأطباق الخضار الباردة والعديد من أنواع الحلويات الصينية ذات المذاق الذي لا ينسى، وقلت حينها في نفسي هذا أول الغيث؛ وأول الغيث قطرة، بعدها مررنا بساحة تيان آن من وكان الوقت ليلا، فإذا بها تتلألأ كعروس بقلائدها، فشعرت ببهجة كبيرة إذ أنني بدأت لتوي أقارن بين مرتع الصبى "دمشق" وبين مقصدي العظيم "بكين" وتذكرت ساحة المرجة في وسط مدينة دمشق، لكن لا مجال للمقارنة إذ ان الفوارق كبيرة جدا بين الاتساع والضيق وبين الصروح المشيدة في كلتا الساحتين، لكن ولأكون صريحا شعرت بأن هاتين المدينتين تربطهما جذور التاريخ المتأصلة، والعمق الحضاري.
بعد عدة أيام قامت إدارة الجامعة بتنظيم رحلة الى سور الصين العظيم الذي يعتبر أحد الاوابد التاريخية التي تشهد بعظمة الأجداد الصينيين وجهودهم اللامحدودة في بناء بلدهم والذود عن حياضها؛ وتذكرت حينها أسوار دمشق التي سقط الغزاة عندها ولم يستطعوا دخول تلك المدينة العظيمة، وكان تلك مقارنة أخرى جعلتني اشعر بالفخر لأنني انتقلت من فيء إلى فيء وراف الظلال.
أما وبعد ان قضيت أربع سنوات متواصلة في هذه المدينة الرائعة بكل تفاصيلها فأنني بتُّ أتنشق هواءها وأتمتع بجمالها بل وأتغزل في جنانها وأدمن زيارة حدائقها ومتنزهاتها واسواقها وملاعبها وحمامات المياه الحارة فيها وكذلك معابدها وآثارها الصامدة.
من يزور بكين لا بد وان يعود إليها مرات ومرات؛ فهي ليست مجرد مدينة فحسب؛ بل إنها قلب نابض بالحب لكل زائريها ولسان ناطق بالترحيب لكل من نزل بساحاتها واسواقها وطرقها.
بكين ودمشق توأمان في كل شيء؛ بالثقافة والحضارة والتاريخ والعراقة؛ دام المجد والعز فيكما فأنتما لؤلؤتي عيني التي أرى فيهما جمال الحياة.