مقالة خاصة: زوج مفقود، وأطفال مرضي، ورضيع ينام على (كرتونة)… مأسي أسر نازحة في "بورتسودان"

مقالة خاصة: زوج مفقود، وأطفال مرضي، ورضيع ينام على (كرتونة)… مأسي أسر نازحة في "بورتسودان"

2025-01-13 03:08:15|xhnews

بورتسودان 12 يناير 2025 (شينخوا) عندما توجهنا صوب أحد مراكز الإيواء والذي يقع بحي الثورة شمالي مدينة بورتسودان عاصمة ولاية البحر الأحمر، كانت الطرقات مزدحمة وحركة السيارات بطيئة، وهو أمر غير معتاد سابقا.

ولكن المدينة الساحلية أضحت الأن أكبر مدن السودان استقبالا للفارين من الحرب، ولاسيما من الخرطوم ومدني وسنار، وأخيرا منطقة شرق الجزيرة بوسط السودان.

وبدا على ملامح سائق سيارة الأجرة التي حملتني إلى مركز الإيواء علامات الضيق والضجر، عرفت أن ذلك يرجع إلى بطء حركة السير وحالة الازدحام على الطريق المتهالك والمليء بالحفر.

وكانت غالبية لوحات السيارات التي تمر ببطء تحمل الحرف (خ)، وهو حرف دال على أن مكان ترخيص السيارة هو الخرطوم، بينما كانت سيارات تعد على أصابع اليد الواحدة تحمل الحروف (ب ح) وهذا يعني أن ترخيص السيارة تابع للبحر الأحمر.

استغرقنا ما يقارب الساعة للوصول إلى مركز الإيواء المقام بالمدرسة التجارية بحي الثورة، وهو لا يبعد إلا حوالي 35 كيلومترا من وسط مدينة بورتسودان.

وكانت النظرة الأولي لمركز الإيواء من الخارج كافية لإعطاء صورة لحال من يعيشون داخل المركز.

من خارج سور المركز القصير يمكنك رؤية أكوام من القمامة تنتشر في جنبات المركز، وبما أنني وصلت إلى هناك بعد يوم ماطر فإن اختلاط المياه مع القمامة أوجد رائحة يمكنك أن تشتمها في أي من أركان مركز الإيواء.

كان أثر هطول الأمطار باديا علي ساحة مركز الإيواء والخيام المنصوبة على جنباته، بينما أطفال يبحثون عن مناطق غير مبتلة لممارسة الألعاب ومنها كرة القدم.

يتكون المركز من 12 غرفة كانت عبارة عن فصول للدراسة بالمدرسة التي تم تحويلها لمركز للإيواء، وتسكن في كل غرفة أسرتين، بينما تعيش بقية الأسر في خيام تم نصبها في ساحة المدرسة.

وفي خيمة بالية، وفي الجزء الشرقي من مركز الإيواء، تجلس النازحة "أسماء عبيد الله" وحولها أطفالها الصغار في انتظار الانتهاء من طهو وجبة متواضعة وضعت في ركن خيمتها، بينما تضع رضيعها علي قطعة (كرتون).

تعيش هذه الأسرة،المكونة من الأم و7 أطفال، وضعا معيشيا صعبا في مركز الإيواء، بعد أن فقدت الأسرة عائلها (الأب).

" لقد جعلت مني الحرب العائل الوحيد لـ7 أطفال، زوجي مفقود ولا أعلم عنه شيئا"، هكذا بدأت "أسماء" سرد مأساتها لوكالة أنباء ((شينخوا))، بينما تجمع حولها أطفالها داخل خيمة صغيرة، ممزقة ومبتلة في بعض جوانبها.

وقالت أسماء، والتي بدت حزينة ،شاحبة الوجه " كنا نقيم في مدينة أم درمان شمالي الخرطوم، وبعد نحو شهر من اندلاع الحرب اختفي زوجي، وأظن أنه قد تم اعتقاله ولا أعلم عنه شيئا حتى الأن، كما تم اعتقال أحد أطفالي وعمره 14 عاما، وأُطلق سراحه لاحقا".

وأضافت " كما تمت مداهمة منزلنا لأكثر من مرة، ولذلك لم يكن هناك حل غير الهرب، هربت بأطفالي إلى مدينة عطبرة بولاية نهر النيل، ثم إلى بورتسودان".

أقامت أسماء وأطفالها على الطرقات العامة بعد وصولها بورتسودان، قبل أن يستقر بها المقام في مركز الإيواء بالمدرسة التجارية بحي (الثورة) وهو قريب من ساحل البحر الأحمر.

وقالت " انتقلت إلى هذا المركز منذ نحو سبعة أشهر، وكما ترون فإن خيمتنا ممزقة وقديمة ولا تقي حر الشمس ولا برد الشتاء ولا مياه الأمطار".

وكنا قد زرنا مركز الإيواء هذا بعد يوم من تساقط أمطار كثيفة بمدينة بورتسودان، وقد لاحظت تأثير المطر على الخيمة التي تقيم بها "أسماء" وأطفالها.

كان سقف الخيمة ما يزال يحتفظ ببعض المياه، وجوانب الخيمة ما تزال مبتلة، وأرضيتها عبارة عن طين، فيما تضررت محتويات حقيبة كبيرة تقبع في ركن قصي من الخيمة.

وقالت أسماء بصوت خافت وبنبرة حزينة " نضع في تلك الحقيبة مستنداتنا الرسمية، شهادات الميلاد للأطفال، وهوياتنا، ولكن للأسف لقد ابتلت بمياه المطر".

ولا تقف معاناة أسماء على فقدانها لزوجها، والإقامة في مركز متواضع للإيواء، ولكنها تتضاعف بسبب إصابة اثنين من أطفالها بأمراض مزمنة.

وتقول " لدي طفل عمره 14 عاما وهو مصاب بمرض السكري، وقد أصيب به نتيجة اعتقاله وتعذيبه من قبل قوات الدعم السريع في الأشهر الأولي للحرب".

وأضافت " كما لدي طفل في السادسة من عمره مصاب بمرض (الربو )، وهو مرض تنفسي مزمن".

ولا تستطيع أسماء توفير العلاج لطفليها، وقالت " يحتاج طفلي المصاب بالربو إلى نوعين من (البخاخ)"، وهو جهاز يقوم بإيصال الدواء إلى الرئتين والممرات التنفسية.

وقالت " يكلف البخاخ الذي يستخدم لعلاج طفلي من الربو نحو 30 ألف جنيه شهريا (نحو 13 دولارا أمريكيا)، ولكني لا استطيع توفير هذا المبلغ".

كما يحتاج الطفل المصاب بمرض السكري إلى (الأنسولين) الذي يساعد في السيطرة على سكر الدم والوقاية من مضاعفات السكري.

تكابد أسماء من أجل توفير وجبة واحدة خلال اليوم لأطفالها، وغالبا ما تكون مكونة من حساء (العدس) والخبز الناشف.

وقالت " تأتينا مساعدات غذائية علي فترات متباعدة، ولذلك فإننا نعتمد على وجبة واحدة خلال اليوم، وغالبا ما تكون عبارة عن حساء من العدس وخبز ناشف يجود به علينا أصحاب المخابز المجاورة".

وتفترش أسماء وأطفالها الأرض لعدم القدرة علي شراء (أَسرة)، بينما ينام رضيعها الذي لم يكمل العامين بعد، على قطعة (كرتونة) تتوسط الخيمة.

ويحاول الأبن الأكبر لأسماء، واسمه (علي) وهو في الـ 16 من العمر مساعدة والدته على تدبير مستلزمات الأسرة.

وقال علي لـ (( شينخوا)) أذهب يوميا إلى السوق الكبير بمدينة بورتسودان، وأمارس بيع سلع استهلاكية كالصابون والجلسرين وفرش الأسنان، وأحصل على هذه السلع من تاجر جملة بالسوق، وأقوم ببيعها بهامش ربح بسيط، ثم أدفع في نهاية اليوم لصاحب السلع".

وأضاف "استطيع الحصول على بعض المال مع أنه قليل ولا يفي باحتياجاتنا اليومية، الوضع صعب للغاية، ونحن نحس بمعاناة والدتنا، ونفتقد والدنا كثيرا".

وامتلئت عينا (علي) بالدموع عندما تحدث عن والده، بينما امتدت يد والدته لتربت على كتفه في لحظة مواساة.

ولا تبدو أسماء سعيدة لما يقوم به ابنها الأكبر ومحاولته لإيجاد عمل في مدينة بورتسودان، وقالت "بالطبع أنا لست سعيدة، ما يزال ابني صغيرا على العمل، كان من المفترض أن يكون في المدرسة حاليا".

وأضافت " نحن غرباء هنا ولا نعرف طبيعة الناس ولا سلوكهم، أكون قلقة عندما يذهب للسوق وأخاف عليه، وأحاول كل مرة أن أمنعه من الذهاب إلى هناك".

ولدى أسماء أربعة أطفال في مرحلة الدراسة، ولكن لا أحد منهم التحق بمدرسة في مدينة بورتسودان.

وبررت أسماء ذلك بعدم قدرتها على تحمل الرسوم الدراسية، وقالت "همي الأساسي الأن هو توفير الغذاء والدواء لأطفالي، بالتأكيد التعليم ضرورة ملحة، ولكننا الأن ندير حياتنا وفقا للأولويات الملحة".

وتحاول إدارة مركز الإيواء إيجاد معالجات للوضع المأساوي لأسرة النازحة أسماء.

وقالت مشرفة مركز الإيواء إسلام محمد "لدينا في هذا المركز حالات عدة لأسر تعاني من مشكلات إنسانية خاصة، ولكن أسرة النازحة أسماء تمثل الحالة الأبرز".

وأضافت لـ ((شينخوا)) أن "أسرة أسماء بينها طفلان مريضان، وزوج مفقود، وزوجة تكافح لوحدها دون سند أو عائل، إنها مأساة إنسانية حقيقية".

وأوضحت أن إدارة مركز الإيواء تتواصل مع جهات ومنظمات وبعض الخيرين لتوفير الدعم اللازم لأسرة أسماء.

وأشارت إلى التواصل مع جمعية الهلال الأحمر السودانية واللجنة الدولية للصليب الأحمر للبحث عن زوج أسماء المفقود منذ نحو 18 شهرا.

ووفقا للمشرفة إسلام، فإن منظمات وطنية ودولية ترسل من وقت لأخر مساعدات للنازحين بالمركز، ولكن هذه المساعدات غير منتظمة.

وقالت إسلام " كل ثلاثة أشهر أو أربعة تأتي مساعدات مكونة في الغالب من الدقيق والسكر والزيت والعدس، ولكنها غير كافية، ولا يتعدي نصيب الأسرة نحو 5 كيلوجرامات من الدقيق وعبوة زيت 3 ليترات".

ويعاني مركز إيواء المدرسة التجارية ببورتسودان من تكدس النازحين بالخيام المنصوبة بالمركز، وفي الغالب تتشارك عائلتان أو أكثر خيمة واحدة.

وتبدو صور الأطفال والنساء وكبار السن الذين يفترشون الأرض في مركز الإيواء، مشهدا يدل علي حجم المعاناة التي تعيشها نحو 700 أسرة.

وتتشارك النازحة إحسان محمد، مع إحدي النازحات خيمة صغيرة وقديمة وممزقة، ولإحسان 4 أطفال، ولشريكتها في الخيمة 5 أطفال.

وقالت إحسان، وهي نازحة من مدينة أم درمان " قدمت إلى هنا منذ ثمانية أشهر، وأتشارك أنا ونازحة أخري خيمة صغيرة وممزقة".

وأضافت لـ ((شينخوا)) "وضعنا صعب للغاية، لا تأتينا مساعدات بصورة منتظمة، ولا يتوفر لنا أي شيء، أطفالنا مرضي ولا يجدون العلاج".

وكغالب سكان مركز الإيواء، تنام إحسان وأطفالها علي الأرض، في ظل رطوبة عالية تتميز بها المدينة الواقعة على ساحل البحر الأحمر.

كانت إحسان تحمل رضيعها البالغ نحو 9 أشهر عندما كانت تتحدث إلينا، وخلال زمن المقابلة لم يكف الرضيع عن البكاء.

قالت إحسان " إن رضيعي مصاب بسوء التغذية، ولذلك هو يبكي باستمرار، ولا استطيع توفير حليب له".

كما أن الرضيع مصاب بمرض جلدي وهو عبارة عن تشققات في الجلد ناتجة عن ارتفاع درجات الحرارة، وقالت والدته " أصيب بمرض جلدي بسبب النوم على الأرض، وبسبب الحرارة الشديدة خلال الفترة الماضية".

ويشتكي سكان مركز الإيواء من تكدس القمامة وانتشار الذباب، وخطر ذلك على البيئة.

وقال النازح طارق ميرغني (50 عاما) وهو نازح من مدينة الخرطوم "نعاني كثيرا من تكدس النفايات، ولا تأتي سيارات النفايات إلى هنا مطلقا، ومع تساقط الأمطار يكثر البعوض والذباب".

وأضاف "من المؤكد أننا مهددون بكارثة بيئية ليس لمركز الإيواء فقط، ولكنها كارثة تهدد كل هذا الحي السكني".

ويتوفر بمركز الإيواء 5 مراحيض فقط، وهو عدد قليل مقارنة بسكان المركز البالغ نحو 700 أسرة.

وتعتبر مدينة بورتسودان عاصمة ولاية البحر الأحمر أكبر مدن السودان استضافة لآلاف النازحين من مدن سودانية أخري وأبرزها الخرطوم، وود مدني وسنار.

ووفقا للسلطات الرسمية بالبحر الأحمر، فإن الحكومة المحلية خصصت 80 مركزا بمدينة بورتسودان عاصمة الولاية لإيواء نحو 21 ألف أسرة نازحة (نحو 105 آلاف فرد).

كما تستضيف مدينة بورتسودان نحو 44 ألفا و448 أسرة نازحة مع أسر مقيمة بمدينة بورتسودان، حيث يبلغ عدد أفراد الأسرة الواحدة في المتوسط 5 أشخاص.

ووفقا للأمم المتحدة، فإن لدى السودان أعلى معدل نزوح داخلي في العالم.

وأعلنت منظمة الهجرة الدولية في أحدث تقرير لها ارتفاع عدد الفارين من النزاع الدائر في السودان إلى قرابة 15 مليون شخص.

ويخوض الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ منتصف أبريل 2023 حربا خلفت 29683 قتيلا، وفق أحدث تقرير صادر عن موقع (ACLED)، وهي منظمة عالمية غير حكومية متخصصة في جمع بيانات النزاعات المفصلة. 

الصور