مقالة خاصة: رحلة إلى فوجيان: حيث يلتقي سحر الطبيعة الأخاذ بألحان التراث العريق
بقلم هالة أحمد
بكين 22 مايو 2025 (شينخوا) لا شك أن للسفر فوائد جمّة، فهو ليس مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل هو بوابة تفتح أمام الإنسان آفاقا جديدة للمعرفة والتجربة، وتمنحه فرصة استكشاف أماكن لم تطأها قدماه من قبل، والاطلاع على حضارات وثقافات غنية تنبض بالتنوع والجمال.
ومن بين الوجهات التي تزخر بعناصر الجذب الثقافي والطبيعي، تبرز مقاطعة فوجيان الواقعة في جنوب شرقي الصين، كواحدة من المناطق الساحرة التي تستحق الزيارة والتأمل. ويمكن لرحلة قصيرة، لا تتجاوز بضعة، أيام إلى هذه المقاطعة أن تتحول إلى تجربة غنية ومُلهمة، خاصة عند زيارة مدينتيها البارزتين: شيامن وتشيوانتشو.
لقد لعبت فوجيان دورا محوريا في التاريخ البحري للصين، وكانت إحدى المحطات الرئيسية على طريق الحرير البحري، ما جعلها نقطة التقاء بين الشرق والغرب، ومنارة للتبادل التجاري والثقافي عبر العصور. هذا التاريخ العريق ترك بصمته في نسيجها الثقافي، الذي يمزج بين التقاليد الصينية الأصيلة وروح الانفتاح والتجديد.
وتحمل كل من شيامن وتشيوانتشو سحرا خاصا يميزها عن الأخرى، إذ تجمع الأولى بين الجمال الطبيعي وروح الإبداع المعاصر، بينما تتألق الثانية بأصالة تراثها وروعة معمارها التاريخي. كل مدينة تقدم تجربة مختلفة، وتغني الزائر بمشاهد ومشاعر لا تُنسى.
-- مدينة شيامن: لؤلؤة على الساحل ووجهة للعلم والشاي
تقع مدينة شيامن على الساحل الجنوبي الشرقي لمقاطعة فوجيان. وهي مدينة عصرية ذات طابع بحري جميل، تشتهر بجزرها الخلابة ومينائها الحيوي. ومن أبرز معالم المدينة جامعة شيامن، التي تُعد من أعرق الجامعات في الصين، إذ تأسست عام 1921 وتتميز بموقعها الخلاب المطل على البحر، وتاريخها الأكاديمي العريق.
يجمع حرم الجامعة بين الطراز المعماري الصيني التقليدي والتصميم الغربي العصري، مما يجعلها وجهة علمية وسياحية في آن واحد. يدرس في الجامعة عدد كبير من الطلاب من داخل الصين وخارجها، كما تعد مركزا بحثيا مهما في مجالات عدة.
في شيامن، لا يُعد الشاي مجرّد مشروب، بل هو طقسٌ يومي، وعنوان لثقافة متجذّرة، تنبع من أعماق التاريخ وتنساب في تفاصيل الحياة. هنا، يتعانق البحر والجبال، ويتراقص البخار المتصاعد من كؤوس الشاي مع نسائم الجنوب الرطبة، ليشكّل لوحة آسرة من الصفاء والسكينة.
تُعرف شيامن بأنها إحدى المحطات البارزة في جنوب الصين لتقاليد الشاي الصيني الأصيل، لاسيما شاي "وولونغ"، الذي وُلد من تربة جبال فوجيان الخصبة. أما شاي "تي قوان ين" فهو من الكنوز التي يفخر بها أهالي المنطقة، لا لجودته فحسب، بل لما يحمله من رمزية في الكرم والضيافة والتأمل.
في الأزقة القديمة للمدينة، وفي بيوت الشاي التقليدية التي تفوح منها رائحة الخشب العتيق، يمكن للزائر أن يعيش تجربة "طقوس تحضير الشاي"، وهي ليست مجرد خطوات، بل أداء بطيء تأملي، يتماهى فيه الإنسان مع الطبيعة، فيغسل أوراق الشاي كما لو كان يوقظ روحها، ثم يسكب الماء الساخن بعناية، وكأنّه يهمس لها لتبوح بأسرارها.
يُقال إن من يشرب الشاي في شيامن، يشرب من ذاكرة الجبال ومن صبر المزارعين الذين يتناقلون أسرار الزراعة والتحميص من جيل إلى جيل. فهنا، لا يُقاس الشاي بدرجة حرارته أو لونه فقط، بل بقدر ما يفتح من نوافذ على الروح.
-- شيامن... نكهات البحر وعبق الجنوب
إذا كان للشاي في شيامن طقوسه، وللطبيعة أسرارها، فإن للطعام فيها حكاية أخرى، لا تقل إثارة ولا لذّة. شيامن ليست فقط مدينة للمشاهد البصرية الخلابة، بل هي وليمة حسّية متكاملة، حيث ينساب عبير الطعام من الأزقة القديمة، وتتحوّل النكهات إلى لغة تبوح بتاريخ المدينة وتنوّع ثقافاتها.
يتّسم المطبخ في شيامن بتأثيره العميق من ثقافة ميننان البحرية، التي تمزج ببراعة بين المكونات الطازجة وطرق الطهي التقليدية. البحر هنا ليس مجرد أفق، بل هو مخزن يومي للملح والنكهات، فالمأكولات البحرية تحتل صدارة المائدة، تُطهى بعناية وإتقان. ومن أبرز أطباق شيامن المحار المقلي، والبط بالجنزبيل وشوربة الفول السوداني، وبالطبع كعكة "سو بينغ" التي يقبل السياح على شرائها لما تمتاز به من نعومة وغنى، ما يجعلها مثالية لمن يبحث عن نكهات طبيعية ونقية.
في شيامن، لا يُقدَّم الطعام في الأطباق فحسب بل يُروى في القصص، ويُتداول في الأمثال، وتُغنّى به الأناشيد الشعبية. إنه تعبير عن الهوية، ومرآة لتاريخ المرفأ الذي عبرته السفن، محمّلة بالتوابل والحكايات والناس. في كل لقمة، يستشعر الزائر عبق الأرض ورائحة البحر، ودفء البيوت.
-- تشيوانتشو وطريق الحرير البحري: ميناء ربط الشرق بالعالم
إذا كانت شيامن تبهر المرء بهدوئها وأناقها، فإن تشيوانتشو تأخذه في رحلة إلى أعماق التاريخ حيث تختلط أصوات الأسواق القديمة مع أناشيد البحارة القدامى. هذه المدينة التي كانت في سالف الزمان ميناء أساسيا على طريق الحرير البحري لا تزال تنبض بروح المغامرة والانفتاح.
وحين يُذكر طريق الحرير البحري، لا يمكن أن تغيب مدينة تشوانتشو عن المشهد، فهي كانت القلب النابض لهذا الطريق، والميناء الذي ربط الصين بالعالم منذ أزمنة بعيدة حيث ازدهرت لتصبح ميناء عالميا يستقبل السفن من الهند والعالم العربي وأفريقيا، محمّلة بالتوابل والعاج والبخور، وتُغادر محمّلة بالحرير والخزف والشاي الصيني الفاخر. هذا الطريق لم يكن مجرد مسار للتجارة، بل كان جسرا بين الحضارات.
في تشيوانتشو، تعايشت الديانات المختلفة، وتلاقحت الثقافات، وازدهرت الصناعات والفنون. ولا تزال شواهد ذلك العصر حاضرة في أرجاء المدينة، تروي قصصا عن فترة كان فيها التنوع مصدر قوة وجمال. إن تشيوانتشو أشبه برحلة عبر الزمن، حيث يستطيع السائح أن يتتبع خطى القوافل البحرية، ويتخيّل أصوات البحّارة وهم يحمّلون البضائع، ويستشعر روح الانفتاح والتبادل الثقافي التي جعلت من تشيوانتشو لؤلؤة مضيئة على طريق الحرير.
أول ما يستوقفك خلال زيارتها هو جسر لويانغ، وهو تحفة هندسية صامدة منذ قرابة الألف عام. وأنت تمشي عليه تشعر وكأنك تمر فوق شريان حجري يربط بين ضفتي الزمن: بين الأمس واليوم، وبين أحلام التجار الذين حملوا البخور والحرير، وأحلامنا المعاصرة بالوصل والتواصل.
وفي إحدى الليالي، قد تحظى بحضور عرض موسيقي استثنائي لفرقة تؤدي نانْيِين، أحد أقدم أشكال الموسيقى الصينية التقليدية، حيث يمكن الاستمتاع بالأنغام العذبة وهي تنبعث من الآت نادرة الصنع، وتتسلل إلى الروح كموجة بحر هادئة، تُحرّك الذاكرة قبل أن تمسّ المشاعر.
وبفضل موقعها البحري وتاريخها التجاري، أصبحت تشيوانتشو ملتقى الحضارات والأديان والثقافات. لكنها، في ذات الوقت، حافظت على جوهرها الثقافي الخاص. وتجسّد نانْيِين هذا التوازن؛ فهي موسيقى محلية النشأة، لكنها تستحضر في أنغامها روائح البخور القادمة من الهند، ونسمات البحر القادمة من العرب، وذكريات الشعراء الصينيين القدماء.
في عام 2009، أُدرجت موسيقى نانْيِين ضمن قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي للبشرية، اعترافا عالميًا بقيمتها الفنية والتاريخية. ومنذ ذلك الحين، شهدت الموسيقى نهضة جديدة في تشيوانتشو، وأصبحت جزءا من هوية المدينة المعاصرة، حيث يتعلم الأطفال العزف على آلاتها، ويعود الشباب لحضور أمسياتها، ويقصدها السياح بحثا عن أصوات الماضي.
-- مسرح الدمى في تشيوانتشو: حكايات تُروى بخيوط الفن
في زوايا الأزقة القديمة بمدينة تشيوانتشو، ينبض فن فريد يُعرف باسم "مو أو شي"، أو مسرح الدمى الخشبية، وهو أحد أعرق الفنون الشعبية في الصين. ليس مجرد عروض للترفيه، بل هو مسرح حيّ يروي قصص الأبطال والأساطير والحكم الشعبية عبر حركات دقيقة وصوتيات عميقة تأسر القلوب.
يتميّز مسرح الدمى في تشيوانتشو بتقنياته المتقنة؛ حيث تُحرّك الدمى عبر خيوط رفيعة أو عصيّ خشبية، يتحكم بها فنانون مهرة توارثوا هذا الفن عبر أجيال. وتتراوح عروضه بين التراجيديا التاريخية، والقصص الأسطورية، والمواقف الكوميدية، وغالبا ما تُرافقها موسيقى نانْيِين، مما يضفي على العرض عمقا ثقافيا وروحا فريدة.
هذا الفن لم يُحافظ فقط على جوهر الثقافة الشعبية، بل تحول إلى جسر حيّ بين الماضي والحاضر، يُعيد إحياء حكايات الأجداد بلغة بصرية ساحرة، تأسر الكبار والصغار على حد سواء. ولا تكتمل زيارة تشيوانتشو دون حضور عرض دمى تقليدي، فهو بمثابة نافذة على روح المدينة وحسها الإبداعي العميق.
إنها رحلة لن تكون عابرة، بل ستبقى محفورة في الذاكرة لمقاطعة فوجيان بأزقتها القديمة، وألحانها العتيقة، ووجوه أهلها الطيبين. إن فوجيان ليست مجرد محطة سفر، بل هي تجربة إنسانية وثقافية تُكتب بالقلب قبل القلم.