تحقيق إخباري: العبّارات النهرية .. شريان حياة .. ومصدر خطر لسكان شرقي سوريا

دير الزور، سوريا 16 ديسمبر 2025 (شينخوا) بينما تشقّ عبّارة معدنية ذات قاع مسطح طريقها ببطء عبر نهر الفرات تحت وطأة شاحنة محملة بالكامل، يسحب رجال كابلات فولاذية سميكة بأيديهم، في حين يقف الركاب متوترين على سطحها، يراقبون المياه وهي تقترب بشكل خطير من الحافة.
بالنسبة لسكان محافظة دير الزور شرقي سوريا، أصبحت هذه المشاهد واقعا يوميا، حيث تُعدّ العبّارات النهرية البدائية، المعروفة محليا باسم "العبارة"، الوسيلة الرئيسة للعبور بين ضفتي النهر الشرقية والغربية بعد تدمير جميع الجسور الرئيسة خلال سنوات الحرب.
يقول عدنان الدخيل، عضو المكتب التنفيذي لمحافظة دير الزور، لوكالة أنباء ((شينخوا))، "أصبح النقل هنا مسألة حياة أو موت، هذه العبّارات بدائية وخطيرة، لكن ليس أمام الناس بديل أو خيار آخر".
بحسب الدخيل، كانت دير الزور تضم ستة جسور رئيسة تربط منطقة الجزيرة الشرقية (المقصود بعض مناطق دير الزور شرقي ضفة نهر الفرات، ومحافظة الحسكة)، بالضفة الشامية الغربية (المقصود بها مناطق دير الزور غرب نهر الفرات)، من بينها الجسر المعلق التاريخي وجسر السياسية الكبير، وقد دُمرت جميعها بحلول أواخر العام 2017 وسط معارك ضارية.
واليوم، لا يوجد سوى جسر ترابي مؤقت واحد، بُني العام 2022 بالقرب من موقع الجسر المعلق، يربط أجزاءً من المدينة بريفها الشمالي، بسعة قصوى تبلغ 30 طنًا، أما بالنسبة للمناطق الريفية الشاسعة، بما فيها الميادين والبوكمال وشرق دير الزور، فما تزال العبّارات النهرية هي الخيار الوحيد.
وقال الدخيل إن "هذه العبارات ضرورية، لا سيما لسكان الجزيرة (مناطق شرق الفرات) الذين يحتاجون إلى العلاج الطبي أو العمل أو الخدمات الأساسية، لكن الخطر الحقيقي يكمن في المسافة الطويلة التي تقدر بحوالي 200 كيلو متر والتي تشكل عائقا أمام فرق الدفاع المدني من التدخل في حال وقوع أي حادث، وبالتالي الوصول في الوقت المناسب يكون صعبا".
وتابع "على الرغم من أن فرق الدفاع المدني السوري والغواصين على أهبة الاستعداد، إلا أن امتداد النهر الطويل وصعوبة الوصول إليه يجعلان الاستجابة للطوارئ بالغة الصعوبة".
من جانبه، قال ضياء الشعبي، أحد سكان الميادين بريف دير الزور الشرقي، لـ((شينخوا)) "لا توجد جسور، ولهذا السبب أستخدم العبّارات، تتعطل العبّارات أحيانا، وتنجرف مع التيار، أو تغرق أحيانًا بمن عليها من سيارات، إنه أمر مُرهِق ومُرعب بالنسبة لنا".
وأشار الشعبي إلى أن الأعطال الميكانيكية المتكررة، واصطدامات العبّارات ببعضها البعض، وتسرب المياه عبر هياكلها المتشققة تشكل خطرا كبيرا لدى السكان ، مضيفا "معظم الأعطال تحدث في المحرك، بمجرد تعطل المحرك، تمتلئ العبّارة بالماء ولا يُمكن فعل شيء".
تابع الشعبي قائلا "الشعور لا يوصف، هناك أطفال ونساء وكبار سن، أحيانًا تصعد حافلات ركاب كبيرة على متنها، إذا حدث مكروه، من تُنقذ ومن تترك؟".
أضاف أنه قبل الحرب، كانت عمليات العبور منظمة وآمنة، "أما الآن، حتى سائقو الشاحنات من خارج المحافظة يأتون وهم لا يعرفون النهر ولا العبّارات، يصلون إلى الضفة الأخرى بعد أن عاشوا رعبا حقيقيا".
ورغم الخطر، تستمر عمليات عبور النهر بالعبّارات ليلا ونهارا.
بالنسبة لبهاء الوياس، وهو عامل تشغيل عبّارة من شرق دير الزور، أصبح العمل نفسه ضرورة تهدد الحياة، وقال "قبل الحرب، كنت أبيع الخضراوات، بعد تدمير الجسور، أصبح هذا عملنا، نقل الناس والمركبات عبر النهر".
وأضاف أن العبّارات غالبا ما تحمل حمولات تتجاوز الحدود الآمنة بكثير، "بعض الشاحنات تزن 10 أو حتى 13 طنا، أي تسرب صغير كفيل بقلب العبّارة وإمالتها على الفور".
ويزيد الطقس البارد الوضع سوءا، "حتى من يجيد السباحة قد لا ينجو في الشتاء، الماء يوقف القلب"، وقال "عندما تصعد حافلة تقل 60 شخصًا على متن العبّارة، تدعو ألا يحدث أي مكروه".
وقال الوياس إن مشغلي العبّارات يطالبون بإعادة بناء الجسر بشكل عاجل، وأضاف "هذا العمل في غاية الخطورة، نريد من الدولة الجديدة إعادة بناء الجسور، وهذا هو مطلبنا الوحيد".
أما بالنسبة لسكان الجزيرة، فتشكّل هذه المعابر جزءا لا يتجزأ من حياتهم اليومية.
وقال حسين العيسى، أحد سكان قرية طبية الجزيرة "استخدام العبّارات معاناة حقيقية، ففي حالات الطوارئ الطبية، نقف في طوابير طويلة دون أن ندري إن كنا سنصل إلى الضفة الأخرى أم لا".
وأشار إلى أن سيارات الإسعاف انقلبت في الماضي، وأن السيارات تسقط في النهر بشكل شبه يومي، مكررا "نعبر الفرات ونحن نعلم أننا قد لا نعود".
ونتيجة لذلك، تُخزّن العديد من العائلات المؤن لتجنب العبور المتكرر، وقال العيسى "نتجنب العبّارات إلا للضرورة القصوى، لكن الحالات الطبية لا تنتظر".
ودعا إلى إعادة تأهيل الجسر بالكامل أو إنشاء جسر عسكري دائم يعمل على مدار الساعة، مضيفا "نحن الآن في فصل الشتاء، وستزداد هذه الحوادث".
تأتي هذه القضية في وقتٍ تُعاني فيه سوريا من تحديات أمنية وإعادة إعمار أوسع نطاقًا خلال المرحلة الانتقالية التي تمر بها البلاد منذ مطلع العام 2025.
أما بالنسبة لأهالي دير الزور، فالمعاناة مُلحة وملموسة، لا تُقاس بالنقاشات السياسية، بل بكل عبورٍ لنهر الفرات.
وقال العيسى بصوتٍ خافت "أصبح عبور النهر مُقامرةً بالحياة، ولن يكون أمامنا خيارٌ آخر حتى تُعاد الجسور".








