
(الصورة الارشيفية)
بكين 9 يوليو 2016 (شينخوا) أمام السفارة اليابانية فى كوريا الجنوبية يقع تمثال من البرونز لفتاة تجلس على كرسي حافية القدمين ويداها مقبوضتان على حجرها، حيث يرمز هذا التمثال إلى مئات الآلاف من نساء المتعة اللاتى سخرهن الجنود اليابانيون للعبودية الجنسية خلال الحرب العالمية الثانية.
وتعد قضية نساء المتعة فصلا مظلما فى تاريخ شرق آسيا لم يصل بعد إلى نهاية حتى الآن. وتستمر الآلام الخاصة بمئات الآلاف من النساء من البلدان التى احتلتها اليابان وغيرها من الدول، ومنها هولندا، واللاتى أُجبرن على الانضمام إلى الجيش اليابانى ليتم تسخيرهن كرقيق جنس خلال الحرب.
وتتخذ الحكومة اليابانية موقفا يتسم بالتخلى واللامبالاة تجاه مسئوليتها عن ذلك، وتستمر فى ادعائها بأن نساء المتعة قمن "بخدمة" الجنود اليابانيين بشكل طوعى، وتنكر أنهن أجبرن على ذلك.
وقد شهد هذا العام قيام جماعات مدنية من الصين وكوريا الجنوبية واليابان وتايوان الصينية والفلبين وأندونيسيا وتيمور الشرقية وهولندا بتعزيز الجهود لإدراج الوثائق الخاصة بنساء المتعة فى برنامج ذاكرة العالم التابع لمنظمة اليونسكو، وهى الخطوة التى قوبلت بمعارضة من جانب بعض الجماعات فى اليابان.

(الصورة الارشيفية)
عمل وحشى وألم أبدى للضحايا
ذكرت جان روف أوهيرن، إحدى الضحايا التى تبلغ 93 عاما من العمر، فى تصريحاتها لوسائل الإعلام فى فبراير الماضى "إنه (رئيس الوزراء اليابانى شينزو آبى) ينتظر أن نموت جميعا، غير أنى لن أموت وسوف أظل على قيد الحياة."
أما يونغى فهي امرأة هولندية ولدت فى أندونيسيا، وفي عام 1944 ألقى الجيش اليابانى القبض عليها واعتقلها فى "مركز للمتعة"، حيث كانت هذه بداية الكابوس بالنسبة لها.
وطوال الليل والنهار، تعرضت يونغى للاغتصاب والضرب، وتعرضت لعمليات الإجهاض الاجبارى حتى نهاية الحرب.
إن تلك التجارب الفظيعة فى وكر الوحوش ظلت تستولى على عقول ونفوس نساء المتعة طوال حياتهن، ولا نزال نستطيع الإحساس بالألم الرهيب فى أصواتهن حينما يتحدثن عن تلك التجارب.
وتصف كانغ جيان، وهي محامية صينية قامت بتمثيل نساء المتعة فى العديد من القضايا، مشهدا للضحية الصينية الراحلة هو تشياو ليان "لم تكن هناك سوى الجدة هو ومحاميتان، كنت أنا إحداهما، لكن الجدة هو لم تكن تستطيع أن تروى قصتها سوى من خلال الهمس فى أذنى، لأنها كانت تخشى ان يسمعها الآخرون. حتى مجرد الحديث عن الأمر كان فى غاية الصعوبة. إن مجرد استعادة هذه الذكرى الأليمة كان يجعلها تسقط من على مقعدها."
وهناك قصة تراجيدية أخرى لضحية صينية تدعى ليو ميان هوان، تم إجبارها على أن تصبح من نساء المتعة. وتقول كانغ "حينما عدنا إلى الموقع السابق لمركز المتعة، أصيبت الجدة ليو بحالة عصبية شديدة حتى أنها ظلت تبحث عن مرحاض. وما كانت تعانيه الجدة ليو فى السابق، هو أنها كانت تُسجن فى كهف وهي عارية، وكان وقت الاسترخاء الوحيد لها هو حينما كانت تزحف لكى تصل إلى المرحاض".
وتقول المحامية كانغ "نحن المحاميات لدينا حس مرهف، كما أننا نتمتع بقوة الاحتمال، إلا أننى فى كل مرة كنت أتحدث فيها مع إحدى نساء المتعة ممن لا تزال على قيد الحياة، لم أكن أستطيع الأكل وكنت أستمر فى نوبات بكاء".
وفى الأول من يوليو الجارى، توفيت رن لين بمقاطعة شانشى بشمال غرب الصين، وكانت رن لين واحدة ممن أُجبرن على أن يصبحن من نساء المتعة حينما كان عمرها 13 عاما. وكانت آخر كلمات رن لين قبل وفاتها "يجب على اليابان أن تعتذر عما اقترفته."
ولا تشكل قصص تلك النساء سوى قمة جبل الجليد. وبحسب المركز البحثى الصينى لنساء المتعة، فإن الجيش اليابانى قام ببناء عدد كبير من بيوت المتعة منذ عام 1937 حتى استسلام اليابان عام 1945. وقد تم إجبار ما لا يقل عن 400 ألف امرأة آسيوية على العمل فى تلك البيوت كرقيق جنس للجنود اليابانيين.
وقال سو تشى ليانغ مدير المركز إن نظام الاستعباد الجنسى كان نظاما قامت الدولة بتخطيطه وقامت القوات المسلحة بتنفيذه، وتكون من النساء الأجنبيات فى معظم الأحوال. لقد كان نوعا من الجريمة الوطنية لم يشهده التاريخ من قبل.

(الصورة الارشيفية)
الإنكار .. جريمة أخرى لليابان
لم تتلقْ نساء المتعة إطلاقا اعتذارا حقيقيا من الحكومة اليابانية التى دائما ما اتسمت بالمكر فى التهرب من المسئولية.
وفى الوثائق المقدمة إلى اتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز التابعة للأمم المتحدة فى فبراير الماضي، قالت اليابان إنه من الصعب التمييز بين نساء تم استعبادهن جنسيا وأخريات مارسن هذا الأمر بشكل طوعى. وترفض الحكومة اليابانية مباشرة تعويض الضحايا أو اتخاذ أى إجراء قانونى لتقديم المجرمين إلى العدالة.
وقد قامت طوكيو فى نهاية العام الماضى بتوقيع اتفاق مع كوريا الجنوبية تعترف فيه بالمسئولية وتخصص اعتمادا ماليا لتعويض الضحايا اللاتى ما زلن على قيد الحياة. وبالرغم من ذلك، لم يكن هناك أى مثال على التكفير الوطنى عن تلك الجريمة من جانب اليابان.
ويتضمن أحد أجزاء الاتفاق بين البلدين على فقرة تنص على أن كوريا الجنوبية لن تعيد إثارة قضية نساء المتعة مرة أخرى. من جانب آخر، تضغط اليابان على كوريا الجنوبية من أجل إزالة التمثال الذى أقيم أمام السفارة اليابانية فى سول تخليدا لذكرى نساء المتعة.
فى ذات السياق، تم عن عمد محو موضوع نساء المتعة من الكتب الدراسية اليابانية. وقد ظهر مصطلح "نساء المتعة" فى الكتب الدراسية من خلال 7 دور نشر فى عام 1997، غير أنه لم يرد ذكر الأمر أو شيء متعلق به في 2012.
وهناك تعتيم إعلامى كامل بمعنى الكلمة على الفعاليات الخاصة بمتحف النساء العملى حول الحرب والسلام فى طوكيو، وهي مؤسسة تم تكريسها للعنف الجنسى الذى ارتكبه الجيش اليابانى فى الحرب العالمية الثانية.
وتقول إريكو إيكيدا مديرة المتحف إن آبى يحاول أن يصور اليابان على أنها "بلد جميل" الأمر الذى لا يسمح بتناول موضوعات مثل موضوع نساء المتعة، وتضيف إريكو "الاعلام يعرف جيدا أن هذا الموضوع سوف يكون حساسا".
ويُظهر تقرير أصدره مؤخرا دافيد كايى، المقرر الخاص للأمم المتحدة حول حقوق الانسان، أن الاعلام اليابانى يزداد قلقا من ممارسة الحكومة لقمع الرأى العام وتكميم أفواه الصحف.
وأحد الأمثلة الصارخة على قمع الإعلام من جانب حكومة آبى كان الضجة التى سببتها صحيفة أساهى شيمبون عام 2014. وتحت ضغط من الحكومة، تم إجبار الصحيفة على الاعتراف بأن تقاريرها عن نساء المتعة "لم تكن دقيقة"، ونتيجة لذلك حامت الشكوك إلى حد ما حول مصداقية تلك الجريدة التى كانت تحظى بقدر كبير من الاحترام وانخفضت مبيعاتها.
الحرب مستمرة
وبرغم كافة أشكال الانكار من جانب الحكومة اليابانية حول قضية نساء المتعة، فهناك جماعات خارج اليابان وداخلها لم تستسلم أبدا فى حربها لإثبات الحقيقة.
ومن جانبها، قامت المحامية الصينية كانغ بزيارات عديدة إلى المناطق الريفية النائية فى الصين لتسجيل الكلمات الأخيرة للشهود. كما قامت كانغ بالإدلاء بالشهادة نيابة عن الضحايا أمام المحاكم اليابانية.
وكرس الباحث سو أكثر من عقد من الزمان للبحث فى الموضوع. وبفضل عمله هذا، تم نشر الظروف الخاصة بنساء المتعة الصينيات على نطاق واسع.
كذلك لم يتوقف مؤتمر قضية نساء المتعة، إحدى المنظمات الكورية الجنوبية، عن عقد "لقاءات الأربعاء" الأسبوعية منذ عام 1992، فى جهد من المنظمة للحصول على اعتذار وتعويض من جانب حكومة اليابان.
وقبل وفاتها متأثرة بمرض السرطان، ضحت ماتسوى يايورى بكل ما تملك لانشاء متحف النساء العملى حول الحرب والسلام فى طوكيو، والذى يعرض قصص رقيق الجنس اللائي استعبدتهن القوات اليابانية فى الحرب العالمية.
كل هؤلاء كرسوا طاقاتهم للقضية العادلة التى تهدف إلى إعلام العالم بالوجه الحقيقى للفظائع اليابانية التى ارتكبت إبان الحرب العالمية الثانية. كما أن محاولة إدراج الوثائق الخاصة بنساء المتعة فى برنامج ذاكرة العالم التابع لمنظمة اليونسكو قد ساهمت فى دفع تلك القضية إلى الأمام.
وقد تم تقديم ما جملته 2744 وثيقة إلى البرنامج، وكانت كل شهادة تم تسجيلها دليلا على مدى فظاعة نظام نساء المتعة.
لن يتم وأد الحقيقة إلى الابد، وأصوات الضحايا تصل كل يوم إلى المزيد والمزيد من الناس حول العالم.
وفى عام 1996، ذكر تقرير لمفوضية الأمم المتحدة لحقوق الانسان أن الحكومة اليابانية قامت بإجبار النساء فى الدول التى احتلتها على العبودية الجنسية لاشباع رغبات الجنود اليابانيين وأن على طوكيو أن تقدم اعتذارا.
وفى عام 2007، صادقت برلمانات الولايات المتحدة وهولندا وكندا، وكذلك البرلمان الأوروبى على إجراءات تهدف إلى إدانة نظام "نساء المتعة"، وحثت اليابان على تقديم الاعتذار وتحمل المسئولية. كما ألغت الولايات المتحدة استخدام مصطلح نساء المتعة فى كافة وثائقها الحكومية، واستخدمت بدلا منه مصطلح "رقيق الجنس الإجبارى".
وفى أغسطس من عام 2014، حثت نافى بيلاى، المفوضة السامية لحقوق الانسان للامم المتحدة حينئذٍ، اليابان على "اتخاذ إجراءات تشريعية وإدارية فعالة وفورية" لضمان التحقيق فى كل حالات العبودية الجنسية ومحاكمة كل المتهمين فيها.
إن صورة تمثال الفتاة أمام السفارة اليابانية فى سول اكتسبت شهرة عالمية، لتذكر الشعوب بالتاريخ الذى تحاول طوكيو طمسه.
أما بالنسبة لليابان، فإن الشجاعة فى مواجهة هذا التاريخ هي الخطوة الأولى لاستعادة ثقة جيرانها الأقربين. والعالم ينتظر من اليابان أن تفعل ذلك.










