طوكيو 19 ديسمبر 2016 (شينخوا) أفلتت اليابان العنان لمجموعة أسمتها بالحلول الاقتصادية، والتي تمحورت حول هجين من السياسات الاقتصادية، التي قدمها رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي، وأطلق عليها اسم "أبينوميكس"، إلا أن أحدث فصول الترياق المبتذل والخطابي بعض الشيء قد وصلت إلى طريق مسدود، مع كفاح ثالث أكبر اقتصاد في العالم من أجل الحصول على محركات نمو باتت بعيدة المنال وسط سيره نحو أزمة سكانية.
-- احتضار سياسات "أبينوميكس"
وجاء نمو الاقتصاد الياباني في الربع الثالث أقل بكثير من التقديرات الأولية وفقا لأحدث البيانات المعدلة التي صدرت هذا الشهر، مع اضطرار الحكومة إلى طرح الأرقام على خلفية ما شهدته النفقات الرأسمالية، وهي الدعامة الأساسية لاقتصاد البلاد، من تباطؤ تخطى التقديرات الأولية ، كما أن المخزونات الخاصة قد انكمشت أيضا.
وبينما قال مكتب مجلس الوزراء الياباني إن الاقتصاد الياباني قد نما 1.3 في المائة على أساس سنوي، بعد تقدير أولي لمتوسط النمو بلغ 2.2 في المائة للفترة ما بين يوليو وسبتمبر، وسط توقع نمو معدل قادم أدنى بكثير من توقعات السوق المتوسطة للنمو بنسبة 2.3 في المائة، فإن الانخفاض في النفقات الرأسمالية كان واحدا من العوامل الرئيسية التي تسببت في انخفاض النمو، مع تراجع إنفاق الشركات بنسبة 0.4 في المائة خلال الربع الثالث.
وتعد السياسات الاقتصادية للحكومة تحت رئاسة آبي وجهود البنك المركزي الخاصة لدعم الاقتصاد لتحفيز الإنفاق مثيرة للقلق هذا العام، إذ أنها لم تدفع الشركات نحو الإنفاق أو الاستثمار، ولعلها ستكون مدعاة للقلق بدرجة أكبر عند معرفة أن عدد من الخبراء اقتصاديين اعتبروا أنها ذات دلالة لما هو آت.
وقال هيساو كاتاياما، وهو محلل أسهم بارز في شركة نومورا للأوراق المالية لوكالة أنباء ((شينخوا)) إن "بعض الشركات الكبرى قد شهدت سنة مربحة هذه السنة، إلا أن الأرباح ما تزال في الشركة ولم يتم توزيعها على الموظفين. إذ تم زيادة الأجور بنسبة لا تذكر هذا العام أو تم تجميدها حتى؛ في حين تم الحد من العلاوات وإلغاء المزايا الأخرى".
وأضاف كاتاياما إن "ما ينبغي التركيز عليه هو الأسباب، وهذا يتعلق بمقدار الثقة، إذ أن الشركات تتجه إلى الاحتفاظ بأرباحها، طالما لديها شعور بحالة من عدم الثقة تجاه تطور الأوضاع الاقتصادية، وهذا ما كان الحال عليه على مدار العام بالكامل وسيستمر حتى العام القادم".
وتابع بالقول بأن مصطلح "أبينوميكس" في الوقت الحاضر لم يعد فاقدا لكل المعاني في أجواء الأعمال وفي المجتمع فحسب، بل أصبح نوعا من التعابير المبتذلة المثيرة للاستهزاء، وبالنسبة للمطلعين على مجال الصناعة، فإن مسار الاقتصاد في المستقبل يتجه نحو رأي مستند إلى ما شهده الأداء الاقتصادي لهذا العام من مستوى أكثر من ضعيف، بحيث أنه سيكون مرهقا بدرجة كبيرة، بالمعنى الحرفي.
ومن وجهة النظر هذه، فإنه يجب التخلص من "أبينوميكس"، وأن يتم التخلي عنه ليصبح فقط مجرد حاشية في السجلات المستقبلية التي تتحدث عن فترات الهبوط في اقتصاد اليابان في القرن الـ 21، أو ببساطة، كما يقول المحللون فقد حان الوقت ليرقد في سلام.
-- حلقة التغذية الاسترجاعية
ويسجل الدين العام الياباني أعلى المعدلات في العالم الصناعي حيث تخطى 240 في المائة من حجم اقتصادها، على الرغم من الجهود الانكماشية المكثفة لبنك اليابان ومسعاه لتحقيق التضخم المستهدف عند 2 في المائة خلال عدة سنوات، قبل إعادة تعديل المنظومة بأكملها لهذا العام بسبب التراجع الناجم عن التأخيرين المحرجين عن الموعد المستهدف، حتى بات الوضع وخيما جدا لدرجة أدت إلى دفع الاقتصاديين الدوليين وصندوق النقد الدولي إلى الإدلاء بآرائهم هذا العام.
وفي وقت سابق من هذا العام، حذر الخبير الاقتصادي ذو الشهرة العالمية، نوريل روبيني، اليابان من أن اقتصادها سيستمر في مواجهة رياح معاكسة قوية على نحو متزايد على مدار العام وفي المستقبل المنظور.
وقال روبيني، البالغ من العمر 57 عاما، ورئيس مجلس الإدارة وكبير الاقتصاديين في مؤسسة روبيني للاقتصاد العالمي، وهي شركة بحوث مستقلة وعالمية مختصة في الاقتصاد الكلي، لجمع من الصحفيين في نادي المراسلين الأجانب في اليابان إن قرارات السياسة الاقتصادية لليابان ساهمت في إحداث "تأثير متموج" قد يكون له أثر على هوامش الدخل الصافي، وعلى هذا النحو فقد تسببت بـ "نتائج عكسية".
وتابع روبيني، وهو أيضا أستاذ في الاقتصاد في كلية شتيرن لإدارة الأعمال في جامعة نيويورك، أن "اليابان ليست في مركز الاهتمام العالمي لمثل هذه الأمور، إلا أن قرارات سياسية معينة، بما في ذلك اعتماد البنك المركزي معدلا سلبيا للفائدة في الآونة الأخيرة قد كان له أثر مضاعف بعد خطوات مماثلة في أوروبا، مع قيام بنوك هناك باعتماد معدلات سلبية للفائدة".
وأضاف أن "مفهوم اعتماد معدل سلبي للفائدة قد بدأ في التسبب بدلالات سيئة وأدى في أوروبا إلى قتل هوامش الدخل الصافي للبنوك، وهو أمر غير فعال وقد يؤدي إلى نتائج عكسية"، رغم أنه لفت إلى أن استخدام أسعار الفائدة ذات القيمة السالبة من قبل البنوك المركزية "ينبغي ألا يتم استبعاده تماما".
ومن جانبها، خفضت مؤسسة روبيني للاقتصاد العالمي توقعاتها لآفاق النمو والتضخم بالنسبة لليابان، معربة عن اعتقادها أن هجين السياسة الاقتصادية المسماة "أبينوميكس" المعتمد من قبل رئيس الوزراء "لا تحظ بالجذب"، في حين أن الارتفاع الأخير في قيمة الين قد أدى إلى "تشديد الظروف المالية" لدى دولة من المحتمل أن تواجه "تغذية استرجاعية منهكة".
ويعتمد الاقتصاد الياباني بشكل كبير على الاستهلاك المحلي، أو بعبارة أخرى، فإن الحكومة اليابانية تسعى إلى الاعتماد بشكل أكبر على الجمهور لسداد ديونها وإنقاذها من عقود من الانكماش، وبشكل أساسي في تمويل أعباء مالية تتعلق بمجتمع بات ينكمش ويشيخ بصورة سريعة.
-- التسونامي الفضي
في سبتمبر من هذا العام، قامت رينو موراتا، زعيمة الحزب الديمقراطي المعارض الرئيسي، باتهام رئيس الوزراء بالكذب على الناخبين ومتابعة تنفيذ "تمثيلية" السياسات الاقتصادية المسماة "أبينوميكس" رغم أنه لم يتم إنجاز أي تقدم ملموس من حيث النمو الاقتصادي من خلال "الدورات الحميدة" فحسب، بل أدى أيضا إلى إحداث زيادة في الفوارق المجتمعية.
وانتقدت أحزاب المعارضة قرار آبي حول المزيد من التأجيل بشأن الزيادة المزمعة لضريبة الاستهلاك معتبرة بأنه مخادع ولا يفِ بتعهدات كان قد أدلى بها في وقت سابق للناخبين.
ومع استمرار بقاء العملة اليابانية ثابتة أمام العملات الرئيسية الأخرى، فإن ذلك يؤدي إلى عرقلة التصدير وتضييق الخناق على الإنتاج، كما أن أرباح الشركات لا يتم تحويلها إلى زيادات في الأجور، الأمر الذي أصاب الاستهلاك الخاص بالاختناق، وفي ظل إدارة آبي، فإن الاقتصاد الياباني يرزح أيضا تحت الأزمة الديموغرافية المتزايدة باستمرار.
ويتواصل زيادة أعداد المواطنين من كبار السن في اليابان في حين تنخفض معدلات الولادة بشكل كبيرة في ظاهرة اجتماعية يطلق عليها اسم "التسونامي الفضي" في اليابان.
وأدى التسونامي الفضي إلى زيادة كبيرة في تكاليف الرعاية الاجتماعية ودفع الديون الحكومية، فيما تعرض آبي هذا العام لانتقادات واسعة لسياساته الاجتماعية غير الملائمة، مع تزايد أعداد المسنين الذين يكافحون ماليا في المجتمع من أجل البقاء على قيد الحياة.
وقالت رينو إن على آبي أن يقوم ببذل المزيد من الجهد لحماية الفئات الأكثر ضعفا في المجتمع مع تمايل الاقتصاد على حافة الفشل، وهذا يتضمن وضع ترتيبات لكل من الشباب وكبار السن في المجتمع، كونهما من المكونات الأكثر ضعفا فيه، إذ أن سياساته حتى الآن لم تكن "كافية" كليا.
-- المقامرة الاقتصادية
مع انخفاض معدل التأييد لحكومة رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي إلى 54.8 في المائة بحسب أحدث استطلاع وطني في هذا الشهر، ومعارضة نحو 70 في المائة من المستطلعين لتمرير مشروع قانون الكازينوهات المثير للجدل في البرلمان والذي يسمح بممارسة القمار في الكازينوهات في اليابان، فإنه كما يبدو، على الرغم من التهديد الحقيقي جدا من أن يتحول إدمان القمار إلى بلاء اجتماعي هنا، فإن الحكومة في ظل إدارة آبي تناضل للحصول على أية وسيلة لتأمين الإيرادات، حتى على حساب التناغم الاجتماعي - وهو أحد تلك الأوجه التي لطالما تباهت بها اليابان.
وتعتقد كتلة آبي الحاكمة أن إلغاء قانون القمار الحالي وافتتاح منتجع كازينوهات جديد متكامل سيكون قادرا على خلق إيرادات تتجاوز العوائد المتوقعة من السياحة ذات الصلة بأولمبياد وبارالمبياد طوكيو لعام 2020، على الرغم من أن مراقبين مطلعين على الشؤون الاقتصادية والسياسية يعتقدون بأنه سيكون من المستبعد جدا أن تكون الكازينوهات جاهزة للعمل قبل الألعاب الأولمبية.
وقال صندوق النقد الدولي في تقرير صدر مؤخرا بشأن هذه المسألة إنه "من دون إصلاحات ذات تأثير كبير، فإنه من المتوقع أن ينخفض النمو المحتمل من حوالي 0.5 في المائة في عام 2015 إلى ما يقرب الصفر بحلول عام 2030، نظرا للعبء الديموغرافي"، مشيرا إلى أنه من المتوقع أيضا أن تكون اليابان أضعف اقتصادات مجموعة السبعة نموا لهذا العام.
في الوقت نفسه، حذرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من احتمال زيادة ديون اليابان المتراكمة إلى 400 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي خلال ثلاثة عقود، في حال لم يقم صناع السياسة بتنفيذ إصلاحات هيكلية.