تحقيق إخباري: بيوت اللبن تقترب من الاندثار شرق العراق والسيول تسحق ما تبقى من هندسة الأجداد
بعقوبة، العراق 27 ديسمبر 2018 (شينخوا) شكلت بيوت اللبن التسمية المحلية لبيوت الطين (وهو طوب مصنوع من الطين والقش) أسلوب بناء اعتمدت عليه كل المدن والقرى في محافظة ديالى شرقي العراق لقرون طويلة لكنه بدأ يتقلص بمعدلات كبيرة خاصة في العقود الثلاثة الماضية.
هذا النوع من البناء ينحصر حاليا وجوده في القرى والارياف خاصة النائية منها فيما بقيت بيوت قديمة يعود تاريخ بنائها إلى أكثر من قرن شاهدا على صلابة الهندسة التي اعتمدها الاجداد.
واللبن هو نوع من الطوب يصنع من مزيج من التربة الطينية، والرمل ويمزج بالماء مع مادة رابطة مثل قشور الأرز أو القش، ويترك هذا المزيج لمدة 25 يوما حتى يجف ويتصلب ويتحول إلى طوب يستخدم في البناء، ويتميز بناء البيوت من هذا الطوب بانه بارد في فصل الصيف ودافيء في فصل الشتاء.
وقال رافد الدايني أثناء وقوفه بجوار منزل جده في اطراف حوض الندا (55 كلم) شرق بعقوبة لوكالة أنباء (شينخوا) "إن هذا البيت بني قبل نحو 80 عاما وما يزال قويا وصامدا امام كل الاجواء المناخية رغم انه بني من اللبن".
وأضاف الدايني أن " أغلب بيوت حوض الندا انتقلت منذ عقود إلى طراز البناء الحديث باستخدام الطابوق والكونكريت لكن والده بقي محتفظا بمنزل جده الذي ما يزال قائما حتى الان"، لافتا إلى ان اعداد بيوت اللبن في انخفاض وهي تقترب شيئا فشيئا من الاندثار.
وتابع ان "ما يميز بيوت اللبن هو كيفية تعاملها مع الطبيعة بحيث تتحول تيارات الصيف الحارة إلى باردة والعكس في الشتاء ولاتحتاج إلى مبالغ مالية طائلة للصيانة كما يحدث الان في البيوت المبنية من الطابوق والاسمنت".
بدوره، قال عبود عبد الغني وهو من سكنة اطراف جلولاء ويعمل مزارعا "إن والده بنى قبل 60 سنة منزلا من اللبن في قريته الصغيرة "، مبينا ان تنظيم داعش الارهابي فجر منزله المبني من الطابوق، فعاد إلى بيت والده ليكون ملاذا آمنا له ولعائلته بعد عودتهم من النزوح القسري.
وأوضح عبد الغني انه اضطر لهدم منزل ابيه بعد ذلك لاستغلال مساحته الكبيرة في بناء بيوت اصغر لابناءه"، لافتا إلى ان قراره هذا اتخذ على مضض لكن ما باليد حيلة فهذه دورة الحياة، على حد تعبيره.
اما عبدالله القيسي من سكنة قرى شمال المقدادية (40 كلم) شمال شرق بعقوبة، فقال إن "العديد من كبار السن بقوا متمسكين بالعيش في بيوت اللبن حتى اخر رمق في حياتهم ومنهم جده".
واضاف القيسي وهو مدرس ان "جده توفي قبل اشهر معدودة وابناءه بدأوا يفكرون في هدم منزله لبناء مضيف كبير للعائلة"، موضحا ان بيوت اللبن بدأت تتقلص بشكل كبير في اطار الانتقال للبناء الحديث.
على صعيد متصل، قال ابو جعفر وهو مختار قرية (مسؤول القرية) في اطراف الوجيهية (24 كلم) شمال شرق بعقوبة " في قريتي كانت بيوت اللبن تشكل 90 بالمائة من المنازل في عقد الثمانينيات من القرن الماضي ولكن الان وبعد مرور نحو 40 عاما لم يبق من بيوت اللبن سوى اقل من 5 بالمائة واغلبها غير مسكونة والبعض الاخر تحول إلى خرائب (زريبة) للماشية والاغنام".
اما راسم اللامي من سكنة قرى بلدة مندلي (90 كلم) شرق بعقوبة فقال "أغلب قرى مندلي ما تزال تضم اعدادا جيدة من بيوت اللبن لان معدلات الفقر عالية جدا والاهالي يجدون صعوبة في بناء بيوت حديثة".
ومضى يقول إن "الطبيعة في اشارة منه للسيول دمرت في المواسم الماضية العشرات من بيوت اللبن القديمة التي يعود بعضها إلى عشرات السنين وهي تمثل هندسة وفن الاجداد"، لافتا إلى أن بيوت اللبن تندثر يوما بعد اخر سواء بتغير حال الاحوال تارة او تغير الاجواء المناخية تارة اخرى".
وكانت عدة مناطق في محافظة ديالى تعرضت إلى موجة سيول عرمة نتيجة غزارة الامطار ما أدى إلى تجريف وهدم عشرات المنازل القروية وخاصة المبنية من الطين او المعروفة محليا باسم بيوت اللبن.
إلى ذلك، ذكر ابو حيدر وهو صانع ماهر للبن في العقد الخامس من عمره يسكن اطراف بعقوبة انه اضطر لترك مهنته منذ 18 سنة تقريبا بعدما ضعف الاقبال عليها بشكل كبير واصبحت تراثية كما يقال".
واضاف وهو جالس على مقعد بسبب شلل في ساقه اليمنى ان " صناعة اللبن انتهت تقريبا في كل مدن ديالى وبيوت اللبن اصبحت من الماضي، نتيجة التطور الحاصل في طرق البناء الحديثة التي استحوذت على عقول الناس رغم ان بناء اللبن فيه ميزات لاتعد ولاتحصى".
ووصف ابو حيدر بناء بيوت اللبن بانها فن هندسي متكامل لايجيده الا البناء الذي يمتلك خبرة جيدة، قائلا "إن هناك بيوتا بينت بطرز معمارية لشيوخ ومسؤولين بقيت عامرة لعقود طويلة قبل ازالتها".
وتابع ان "عملية صنع بيوت اللبن تحتاج إلى وقت ليس قليلا وادامة مستمرة موسميا"، معتبرا اندثار صناعة بيوت اللبن بانه امر محزن بالنسبة له لانها تشكل حركة بناء استمرت لقرون طويلة في مختلف مناطق محافظة ديالى.
ويرى مهتمون بالشئون التراثية ضرورة الحفاظ على هذا النوع من البيوت لانها تمثل مرحلة تاريخية من مراحل تاريخ الشعب العراقي.







