تحقيق إخباري: "باص الأمل" .. مدرسة متنقلة تزرع الأمل بنفوس أطفال حرموا التعليم
بغداد 29 ديسمبر 2018 (شينخوا) في منطقة بائسة فقيرة ومنسية باحدى العشوائيات في العاصمة العراقية بغداد، حولت إحدى منظمات المجتمع المدني أوتوبيسا قديما إلى مدرسة متنقلة تهدف إلى غرس الأمل في نفوس الاطفال الذين حرموا من الحصول على حق التعليم لاسباب متعددة.
ويحمل هذا الأوتوبيس اسم (باص الأمل) وهو عبارة عن حافلة تم رفع مقاعدها الاصلية ووضع مقاعد دراسية مثل مقاعد الطلبة في المدارس الحكومية، وفيها ستائر زاهية الألوان، وجهاز تليفزيون وجهاز تسجيل لسماع بعض الاناشيد، إلى جانب سبورة (لوحة الدراسة للكتابة عليها)، كما يوجد فيها براد للماء، ويتسع الأوتوبيس أو المدرسة المتنقلة لـ 50 طالبا، فيما خصص مقعد السائق والذي لم يتم رفعه لإحدى المعلمات للجلوس عليه والاستراحة.
المكان المخصص للحقائب في الأوتوبيس الاصلي تم تحويره وتحويله إلى مخزن للمواد الغذائية التي توزع على الطلبة، فيما رسمت على الجدران الخارجية للأوتوبيس صورا بالوان زاهية وبراقة لطلبة وطالبات، والكرة الارضية كما كتب عليها باللغة الانجليزية اسم مؤسسة اطفال العراق، التي ترعى المدرسة، وعبارة مساحة لرعاية المستقبل باللغة الانكليزية ايضا.
ويتلقى الطلبة داخل هذا الأوتوبيس منهاج التعليم الابتدائي المقرر من قبل الحكومة، حيت يتم تعليمهم القراءة والكتابة والمسائل الحسابية البسيطة وحروف اللغة الانجليزية ومادة العلوم، كما يتلقون دعما نفسيا، فضلا عن ممارستهم لبعض الانشطة الرياضية والفنية في الساحة التي يقف عليها الأوتوبيس والمغطاة بكاربت (اشبه بالسجاد) أخضر اللون ولا تزيد مساحته عن 50 مترا.
وعن فكرة باص الامل قال المحامي فراس البياتي رئيس منظمة بوابة العدالة التي ترعى هذه المدرسة المتنقلة لوكالة انباء (شينخوا) "منظمتنا تهتم باطفال الشوارع والمتسربين من المدارس، في احدى الليالي كنت افكر بمصير هؤلاء الاطفال وكيف نساعدهم فتناولت ورقة وبدأت اكتب فكرة باص متنقل يتحول إلى فصل دراسي ويقدم الدروس لمن لم يتمكن من الدخول الى المدراس، لكن توقفت وقلت مع نفسي من سيساعدني في هذه الفكرة التي تبدوا غريبة جدا على مجتمعنا".
واضاف مبتسما "تناولت القلم والاوراق مرة أخرى ودونت الفكرة ووضعتها كمشروع متكامل والهدف منه ثم ارسلته إلى مؤسسة اطفال العراق، فاحبوا فكرة المشروع وسألوني عن المبلغ المطلوب فابلغتهم بانه 15 مليون دينار عراقي (12500 دولار) وقمنا بتنفيذ هذه الفكرة ووضعنا الباص في معسكر الرشيد (قاعدة للجيش العراقي السابق) جنوب شرقي بغداد، الذي تحول إلى منطقة سكن عشوائية، واستقبلنا اول 50 طفلا وباشرنا معهم وتم تخريج الدفعة الاولى وبالتعاون مع وزارة التربية تم قبول 36 منهم في المدارس الحكومية.
واوضح ان هذه المدرسة المتنقلة تستهدف الاطفال الذين لا يملكون وثائق رسمية او المتسربين من المدارس والاطفال العاملين، مبينا ان مبادرته تسعى للتصدي لظاهرة أطفال الشوارع والأطفال المتسربين والأطفال الذين يجبرون على العمل، بعد ان اصبحت ظاهرة في العراق نتيجة الظروف الصعبة التي مر بها، لمساعدتهم وابعادهم عن الاستغلال من قبل العصابات او الجماعات الارهابية.
وتابع "هدفنا زرع الامل في نفوس هؤلاء الاطفال لانهم فقدوه نتيجة الظروف القاسية التي مرت على عوائلهم واجبرتهم على ارسال اطفالهم للعمل او التسول، لان اذا غرسنا الامل في نفس الطفل فانه قد يصبح لديه حلم ويبدأ يفكر به، ليساعده لكي يكون انسانا صالحا في المستقبل او نبعده على الاقل من ان يسلك طريق الاجرام مثلا".
وأفاد البياتي بأن مشروعه لاقى نجاحا ودعما من جهات عديدة ما جعله يفتح مدرسة متنقلة ثانية ويطمح لزيادة العدد إلى 12 مدرسة متنقلة ليس في بغداد بل سيشمل المحافظات التي اجتاحها تنظيم داعش الارهابي، في نينوى وصلاح الدين والانبار وكركوك وديالى، مبينا انه سيوقع مطلع شهر مارس المقبل عقدا مع الحكومة العراقية بهذا الخصوص.
وأكد البياتي أن منظمته تقدم مساعدات لعوائل الطلبة منها استخراج الوثائق الرسمية بالتعاون مع الجهات الحكومية، وتقديم المساعدات الغذائية بهدف تشجيعهم على ارسال ابنائهم إلى المدرسة، لان بعضهم يرسل اطفاله إلى العمل لتوفير لقمة العيش.
داخل الباص او الفصل الدراسي يجلس 48 طالبا تشكل الطالبات النسبة الكبيرة منهم حيث يبلغ عددهن 32 طالبة، يتم جلوسهم حسب الاعمار والطول، الصغير والقصير يجلس في الامام والاكبر عمرا والاطول يجلس في الخلف.
الطالبة اخلاص كاظم البالغة من العمر 10 سنوات، والتي لا تحمل وثائق رسمية لان عائلتها جاءت من محافظة اخرى، ووالدها لم يذهب إلى محافظته لكي يسجلها ويستخرج لها اوراق رسمية، تجلس اخلاص على مقعدها الدراسي ومعها حقيبة فيها كتب واقلام ودفاتر، وتبدو فرحة به قائلة "احب هذا المكان لاني اتعلم فيه القراءة والكتابة"، مضيفة "كنت عندما ارى اخوتي الاخرين يذهبون إلى المدرسة احسدهم واتمنى الذهاب معهم".
وأشارت اخلاص إلى انها سمعت بباص الامل من طفل يسكن عائلته بجوار عائلتها فطلبت من والديها التسجيل في المدرسة المتنقلة وبعد موافقتهما حضرت إلى المدرسة وبدأت الدراسة منذ قرابة شهرين، معربة عن املها بان تصبح في المستقبل معلمة لكي تعلم الاطفال الذين لايقرأون ولا يكتبون.
يذكر أن القانون العراقي لا يمسح للاطفال الذين لا يحملون وثائق رسمية بالتسجيل في المدارس الحكومية، كما لا تسمح تعليمات وزارة التربية للطلبة الذين تتجاوز اعمارهم السبع سنوات في التسجيل بالمدارس الحكومية.
إلى ذلك، قالت المعلمة زهراء كريم التي تخرجت العام الماضي من الجامعة العراقية وهي متخصصة باللغة العربية وتقوم بتدريس الطلبة في باص الأمل مادة القراءة والكتابة "هؤلاء الاطفال ضحية للظروف الصعبة التي تمر بها عوائلهم، ونحن نقوم هنا بتعويضهم عن ما فقدوه من تعليم ورعاية اجتماعية ونفسية وتعليمهم الامور العامة كالنظافة والنظام واحترام الاخرين وغيرها".
واضافت "رغم ان الفترة التي قضيتها مع الاطفال في هذه المدرسة قصيرة الا اني احببتهم وتفاعلت معهم، وهم بدورهم احبوني، بحيث عندما احضر في الصباح اجدهم ينتظرونني على مسافة من الباص لكي يسيروا معي ويبلغوني عن ما حصل معهم في بيوتهم، لان اصبح تربطني بهم علاقة صداقة".
وافادت بانها عملت قبل عدة ايام للطلبة شجرة الميلاد بمناسبة اعياد الميلاد وعليها صورة بابا نوئيل ووضعتها في الفصل الدراسي، مبينة ان العديد منهم لم يسمع ولم يرى من قبل شجرة الميلاد، لافتة الى انها اخبرهم عن قصة بابا نوئيل وكيف يقوم بجلب الهدايا للاطفال، مؤكدة ان الاطفال احبوا هذه القصة وتفاعلوا معها.
طلاب باص الامل هم من العوائل الفقيرة وتسكن في منازل لا تتوفر فيها اغلب الخدمات الاساسية، وهم من الذين حرموا من التعليم اما لانه لا توجد لديهم وثائق رسمية، او ان عوائلهم ترسلهم للعمل او التسول، وتتراوح اعمار الطلبة ما بين 6 و 10 سنوات، فضلا عن ابائهم لا يقرأون ولا يكتبون.
وتعد قضية تسرب الطلبة من المدارس من اخطر الآفات التي تواجه العملية التربوية ومستقبل الأجيال في العراق لكونها إهدار تربوي لا يقتصر أثره على الطالب فقط بل يتعدى ذلك إلى جميع نواحي المجتمع فهي تزيد معدلات الأمية والجهل والبطالة وتضعف البنية الاقتصادية والإنتاجية للمجتمع، وتشكل خطرا على مستقبله.
يذكر ان منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، أفادت بأنه بعد استيلاء التنظيم المتطرف على عدة محافظات عراقية العام 2014، فان أكثر من مليون طفل عراقي تسربوا من التعليم، ونحو ثلاثة ملايين آخرين لا ينتظمون في التعليم بسبب الحرب، الامر الذي دق ناقوس الخطر ما دفع الحكومة العراقية ومنظمات المجتمع المدني إلى التعاون لاعادة المدارس التي دمرت بسبب الحرب على الارهاب، والعمل لاعادة الطلبة إلى مقاعدهم الدراسية.
وكانت المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق اكدت أخيرا أن ظاهرة التسرب من المدارس أصبحت تشكل خطرا جسيما على حقوق الطفولة في العراق، وقد تؤدي إلى الاستغلال غير المشروع للأطفال الذين يقعون ضحايا للمجرمين والجماعات الإرهابية، داعية جميع الجهات المختصة للتعاون للحد من هذه الظاهرة.
باص الامل حاليا يستقر بمنطقة معسكر الرشيد، وسيبقى لمدة 8 اشهر، ثم ينقل إلى منطقة أخرى في رحلة جديدة يزرع فيها بذور الامل في نفوس عدد من الطلبة الذين حرموا من التعليم، فهو يسير لنقل العلم والمعرفة لمن يحتاجها من هؤلاء الاطفال في تجربة انسانية فريدة من نوعها.







