مقالة خاصة: تأملات مثقف صيني حول الديمقراطية

2021-11-24 17:25:13|arabic.news.cn
Video PlayerClose

بقلم شوي تشينغ قوه (بسام)

بروفسور في جامعة الدراسات الأجنبية ببكين

بكين 24 نوفمبر 2021 (شينخوا) تتجه أنظار العالم في الآونة الأخيرة إلى أزمة المهاجرين على الحدود بين بيلاروسيا وبولندا، وينصبّ جُلّ اهتمام المحللين الغربيين، في قراءاتهم لهذه الأزمة الإنسانية، على الصراع الجيوسياسي بين روسيا وبيلاروسيا من جهة، وبلدان الاتحاد الأوروبي من جهة أخرى، بينما غاب عن اهتمامهم مصير المهاجرين، وجذور معاناتهم، وكأنهم مجرد قطع حجرية في لعبة الشطرنج بين الدول المتنازعة.

وكنت أتمنى أن أقرأ تحليلات أعمق من قبل الكتّاب في منطقة الشرق الأوسط لهذه الأزمة، علما أن المهاجرين، وهم الأبطال الحقيقيون في هذه الأزمة المأساوية، قدموا بشكل رئيسي من دول شرق أوسطية: العراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال وأفغانستان وغيرها. وكنت أتوقع أن تثير هذه الأزمة تساؤلات ومراجعات لإحدى المسائل الأساسية التي ينشغل بها العالم وينقسم حولها انقساما عميقا، وهي مسألة الديمقراطية التي وعد الغرب طوال العقدين الماضيين بتحقيقها في هذه الدول، أي الدول التي هجرها ويهجرها لاجئون في موجات متتالية ليست الأزمة الأخيرة إلا موجة جديدة منها.

وبما أني لم أقرأ ما أتمنى قراءته، أحب أن أشارك أصدقائي القرّاء تأملاتي التالية حول الموضوع:

أولا، إذا كانت أزمة اللاجئين الأخيرة تعني صراعا جيوسياسيا بالنسبة للأوروبيين، فهي تعني مأساة حقيقية بالنسبة للعرب. أقول ذلك لأني أعرف، من خلال تجربتي الشخصية، أن العراقي والسوري والليبي وغيرهم من العرب، مثل بقية شعوب الأرض، يتمتعون بالعزّ والكرامة، ويفضلون الأمن والاستقرار، ويحبون أوطانهم، ولا يريدون هجرتها إلا إذا أجبرتهم الظروف على ذلك، فتركوها متجشمين كافة أنواع الإهانة والمعاناة، غير عابئين حتى بمخاطر الموت. إذن، تأتي هذه الأزمة لتذكرنا من جديد بأن المشروع الغربي لتأسيس ديمقراطيات في الشرق الأوسط الكبير قد مُني بالفشل الذريع. أما ضحايا هذا الفشل، فهم شعوب المنطقة، نساؤها ورجالها، شيوخها وأطفالها. وكدت أسمع الصراخ المحبوس في صدور كثير من اللاجئين المنبوذين في ليالي أوروبا الشرقية الباردة: لماذا ترفضون دخولنا لبلادكم، ألستم أنتم الذين دمّرتم بلداننا مباشرا أو غير مباشر؟ أفلا تشعرون بتأنيب الضمير جراء ما فعلتموه وتفعلونه تجاهنا؟

ثانيا، تتيح لنا هذه الأزمة فرصة جديدة لأن نتأمل في جملة من التساؤلات العميقة حول الديمقراطية. ومنها: ما هي الديقراطية؟ هل هي صناديق الانتخابات لا غير؟ أم أنها تعني في جوهرها مجموعة من القيم والمفاهيم الثقافية التي ينبغي أن تترسخ في نفوس الناخبين قبل عملية الانتخاب، منها التسامح والعقلانية وتقبّل الآخر المختلف واحترام هذا الاختلاف؟ وهل هناك نمطٌ موحّد للديمقراطية، فنعتبر الديمقراطية الغربية، وخاصة النمط الأمريكي نمطا مقدسا يجب نسخه وتطبيقه بحذافيره في بلدان أخرى؟ أم أن للديمقراطية أنماطا متنوعة، حتى تناسب التنوع الكبير في ثقافات الدول وقيّمها وعقليات شعوبها والخصوصيات التاريخية والاجتماعية لها، وبالتالي يحق لكل دولة استكشاف النمط الديمقراطي المناسب لها؟ وهل هناك مرجعية مطلقة مفوّضة بإطلاق الحكم على الغير، فتقسّم العالم إلى عالم ديمقراطي وآخر شمولي أو استبدادي، إلى عالم متحضر وآخر بربري، إلى عالم الأنا، وعالم الغير؟ أم أن هذه المرجعية لا تتمتع بأية شرعية قانونية أو أخلاقية، وأن هذا التقسيم لن يحقق إلا مزيدا من استقطاب العالم وتمزّقه، وأنّ تشويه الآخر المختلف وشيْطنته يناقض الروح الديقراطية نفسها؟ وهل الديمقراطية هي دواء سحري يصلح لعلاج كل أمراض العالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية؟ أم أن هذا الدواء يحمل في داخله السموم أيضا إذا أُسيئ تناوله، وقد ظهرت آثارها الجانبية القاتلة في العديد من الدول التي اندلعت فيها ثورات "الربيع العربي" المطالبة بالديمقراطية؟ هذه التساؤلات وغيرها تُثار لا لإيجاد أجوبة جاهزة لها، إنما لكي نزيل الإطار الذهبي الوهمي حول الديمقراطية، ونتأمل في المسائل المتعلقة بها بعقلانية وواقعية، باعتبارها وسيلة سياسية من أجل تحقيق سعادة الإنسان ورفاهية المجتمع، لا بصفتها غاية ماورائية تعلو ولا يُعلى عليها.

ثالثا، يتّضح مع مرور كل يوم أن النمط الديمقراطي الأمريكي نفسه أبعد ما يكون عن الكمال، وأن المجتمع الأمريكي يعيش اليوم أزمات عميقة تهدد بتمزيق نسيجه وتقويض وحدته، مثل الاستقطاب السياسي والأيديولوجي، والتفاوت الطبقي، والتمييز العنصري، وانتشار الأسلحة والجرائم والمخدرات، وإدمان شن الحروب والتدخل في شؤون الآخرين... وأنا شخصيا صدمت بعد قراءتي مقالة نشرها الصحفي الأمريكي المشهور نيكولا كريستوف (Nicholas Kristof) الذي فاز مرتين بجائزة بوليتزر الإعلامية، بعنوان "وداعا يا قرائي، مع الأمل" (A Farewell to Readers, With Hope)، وقد نُشرت في صحيفة نيويورك تايمز بتاريخ 28 أكتوبر 2021. كتب السيد كريستوف، البالغ 62 عاما من عمره، أن أكثر من رُبع زملائه الذين كانوا يستقلون معه الباص المدرسي إلى المدارس الابتدائية والثانوية قد تُوفوا، من تعاطي المخدرات أو الكحول، أو انتحارا، أي توفوا من اليأس والبؤس. وكتب فيها أيضا: خلال كل أسبوعين، يموت أمريكيون من المخدرات والكحول والانتحار بأعداد تفوق الأميركيين الذين قُتلوا في الحربين العراقية والأفغانية اللتين دامتا عشرين سنة! (ولكنه لم يذكر، كم من العراقيين والأفغان قتلوا في هاتين الحربين اللتين شنتهما أمريكا بذريعة نشر الديمقراطية!) وإذا كانت هذه الأرقام صحيحة، فبأي حق تحرص الدولة الأمريكية على نشر بل فرض ديمقراطيتها المريضة في أنحاء العالم؟ وأليس من الأفضل أن تركز جهودها في إصلاح ديمقراطيتها وتحسين شؤونها الداخلية وعلاج أمراضها المزمنة؟ وهل حقا أن الإدارة الأميريكية تهتم بحقوق الإنسان الصيني، أو العربي، أكثر من اهتمامها بحقوق الإنسان الأمريكي؟ وأخيرا، إذا كانت الحكومات الغربية تحترم حقوق مواطنيها في رفض أخذ اللقاحات ضد فيروس كورونا التي يشكّون في فعاليتها أو يخافون من آثارها الجانبية، فلماذا لا تحترم حقوق البلدان الأخرى في رفض نمطها الديمقراطي الذي تشكّ في فعاليته، بل ثبت فشله مرارا وتكرارا؟

في الختام، أقول كل ذلك لا لكي أُنكر أن كل مجتمع تواجهه مشاكل مختلفة، وأن أمريكا لا تزال تحظى بميزات وإيجابيات كثيرة، ولا لكي أشجع الحكومات على التهرب من واجب استكشاف النمط الديمقراطي المناسب لها، أو لأدافع عن الأنظمة التي تمارس الظلم والطغيان ضد مواطنيها، بل لأؤكد ضرورة التعايش السلمي والتنافس الإيجابي والتعلم المتبادل بين التجارب السياسية المختلفة. وعلينا أن ننظر إلى السياسة، بالنظرة التي كان يتحلى بها الحكيم الصيني القديم سون تسي (Sun Zi) في كتابه الخالد بعنوان "فن الحرب"، حيث قال عن الحرب: "إنها من جلائل أمور الدولة، حيث يكمن الموت أو الحياة. وإنها طريق تؤدي إلى الوجود بقدر ما تؤدي إلى الهلاك. فلا يمكن إلا النظر فيها بعناية وتأنّ."


010020070790000000000000011100001310330326