ARABIC.NEWS.CN

بقلم كاوه محمود
يشهد العالم المعاصر أحداثا جديدة تنعكس آثارها في حقل العلاقات والسياسة الدولية والمجالات الاقتصادية، إيذاناً بحدوث تغييرات ناجمة عن تحول المتغيرات الكمية التي حدثت خلال الربع الأول من القرن الحادي والعشرين والتي تصاعدت فيه الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى متغير نوعي، يمس مجالات أساسية متعلقة بمفهوم التعددية القطبية، وقضايا التنمية العالمية والأمن المشترك والسلام الدولي.
إن الميزة الأساسية في المتغيرات الجارية تتعلق بالتراجع النسبي لهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وفقدان صدارتها في قيادة السياسة الدولية والتي استخدمت فيها سابقاً أقنعة الدفاع عن حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية، عبر محاولة استغلال تواجدها في الأمم المتحدة والهيئات والمنظمات الدولية التابعة لها ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي لتمرير المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية.
غير أن تلك السياسات التي أعقبت نهاية الحرب الباردة خلال السنوات الماضية ــ سواء تولى الحزب الديمقراطي أو الحزب الجمهوري الإدارة الأمريكية ــ والتي كانت تتمثل في أن قوة أمريكا في العالم لا يجب أن تكون محدودة، وأن سلطة وهيمنة أمريكا من المهم أن تمتد إلى العالم بأسره، أصبحت هذه السياسة في هذه الأيام عاجزة عن الدفاع عن مصالح الإمبريالية العالمية. ويعود ذلك إلى تفاقم الأزمات واللجوء إلى الحرب لحسمها فضلا عن الأزمات الدورية للرأسمالية المعاصرة، وبالأخص في المراكز الرأسمالية الأساسية، حيث لم تؤت هذه السياسات ثمارها على الصعيد العملي، بل يمكن القول أن تلك السياسات فاقمت تلك الأزمات.
ويبدو أن جملة هذه العوامل تدعو الولايات المتحدة الأمريكية إلى إجراء تغيير نوعي في تلك السياسات بدءاً بالحديث عن "عصر جديد" سيشهد المزيد من الحمائية ووضع حدود للعولمة، وعدم الاهتمام بالقضايا المشتركة التي تمس البشرية وخاصة في مجال البيئة والحريات الثقافية وتنوع الهويات، والتركيز على المزيد من النزعة التجارية، وتراجع التجارة الحرة.
لقد كانت السياسة الخارجية لبايدن تقوم على رفض الاعتراف بحدود القوة الأمريكية، ومحاولة الحفاظ على هيمنة الولايات المتحدة على العالم بأسره. ووفق هذا الأساس، دعمت الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو استمرار الحرب في أوكرانيا، غير أن مفردات السياسة الجديدة لترامب ترى عدم إمكانية الحفاظ على الهيمنة من خلال السياسات السابقة.
ففي الوقت الذي يتم فيه الحديث عن إنهاء الحرب في أوكرانيا ومسألة السلام في الشرق الأوسط، والتي لا تتجاوز آفاق الصفقات التجارية المستقبلية، تؤكد السياسة الجديدة على جملة أمور سبق أن أشار ترامب إلى بعض منها أثناء حملته الانتخابية، منها تمكين أمريكا من حماية مصالحها في مجال الأمن الوطني والهيمنة الإقليمية، والتركيز بشكل أكبر على المنطقة القريبة من قارة أمريكا الشمالية، وليس إنفاق الموارد المالية والطاقة الاقتصادية والبشرية في الصراعات والحروب في تلك المناطق البعيدة، التي ليست مهمة بالنسبة لأمريكا.
ومن هذا المنظور، جرى الحديث بشأن الخليج والمكسيك وغرينلاند وكندا باعتبار هذه الأمور بمثابة تعزيز لمكانة أمريكا في السياسة الدولية وحماية لأمنها الوطني. وكخطوة مكملة لتلك السياسة، تحدث ترامب عن إنهاء حرب غزة وإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا.
وضمن هذا التوجه، تركز الرؤية الشاملة لترامب على التجارة الدولية ووقف المساعدات الخارجية وحصة مشاركة أمريكا في المنظمات الدولية. كما يهدد بزيادة التعريفات الجمركية على دول أخرى، غير آبه بردود الأفعال على تلك السياسات التي ستؤدي إلى أن يتحمل الفرد الأمريكي الزيادات الحاصلة في أسعار السلع الاستهلاكية وأسواق العمل والخدمات، ناهيك عن تأثيرها السيء على حركة التجارة الدولية.
تتمثل خطة ترامب في تنفيذ تعريفات جمركية بنسبة 25% على جميع المنتجات القادمة من المكسيك وكندا، إلى جانب زيادة بنسبة 10% على الواردات الصينية، وستكون النتيجة زيادة في أسعار السلع المستوردة من المكسيك وكندا والصين، وخاصة في مجال الإلكترونيات والأجهزة الذكية والسيارات والآلات والنفط والبلاستيك والأثاث، وبعض السلع الغذائية، مما يؤدي الى زيادة العبء الضريبي وتقليص الإنفاق الاستهلاكي وتعطيل سلاسل التوريد وخاصة في مجال السيارات والإلكترونيات.
وترى بعض الدراسات أن التعريفات الجمركية المقترحة من ترامب قد تكلف الأسرة الأمريكية العادية أكثر من 2600 دولار سنويًا، مما يزيد من الضغط على ميزانيات الأسر. وبسبب الترابط الوثيق للاقتصاد العالمي، فإن أي اضطراب في العلاقات التجارية الأمريكية مع جيرانها والصين سيكون له تأثير متسلسل على الأسواق العالمية.
فوفقًا لتقرير لصندوق النقد الدولي صدر في بداية 2025، ارتفعت تكلفة المواد الخام بنسبة 12% في بعض الأسواق الرئيسية نتيجة لزيادة التعريفات الجمركية، مما أثر سلبًا على تكلفة الإنتاج في الدول النامية. كما انخفضت صادرات بعض الدول ذات الدخل المنخفض بنسبة تصل إلى 8% مقارنة بالفترة السابقة حسب تقرير البنك الدولي، حيث أدت زيادة الرسوم الجمركية إلى تراجع تنافسية المنتجات في الأسواق العالمية.
وأفاد تقرير صدر عن مؤسسة التجارة العالمية بتراجع الطلب على المنتجات الزراعية نتيجة لارتفاع تكاليف النقل والتأمين، مما أثر على القطاعات الحيوية في الدول النامية، مثل الصناعات التحويلية والزراعية بشكل ملحوظ. ففي قطاع الزراعة، أدت التعريفات الأمريكية إلى انخفاض حجم الصادرات بنسبة 10% في بعض الدول الأفريقية.
وعلى الرغم من حديث أقطاب هذه السياسة عن ارتفاع أسعار الدولار، الاّ أن الفترة الأخيرة شهدت انخفاضا في سعر الدولار.
وعموما، لم تتغير السياسة الإمبريالية للولايات المتحدة الأمريكية من حيث الجوهر. فمقولة ترامب"السلام من خلال القوة" تُعد استمرارا لنهج عدواني ولكن بشكل مغاير، وما يسعى إليه ترامب يدخل في إطار الحروب التجارية.
وفي المحصلة النهائية، نرى أن نهج الحروب التجارية التي يتبناه ترامب ممثلاً لمصالح الأوليغارشية العالمية يشكل تهديدا خطيرا للتنمية على الصعيد العالمي. وهذا يتطلب مواجهة هذه السياسة من قبل الدول النامية وسائر الدول المتضررة من الحروب التجارية من خلال تنويع اقتصادات الدول النامية، وتنشيط التعاون الدولي، والاهتمام بدور مجموعة بريكس، والعمل من أجل التنمية بإرادة مستقلة، وتطوير شراكات تجارية جديدة، واعتماد سياسات نقدية فعالة للتصدي للآثار السلبية لهذه السياسات.
ملحوظة المحرر: كاوه محمود، هو سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الكردستاني-العراق.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وكالة أنباء ((شينخوا)).