في قربك أرى في الصحراء أزهارا

2021-05-26 15:25:58|arabic.news.cn
Video PlayerClose

بقلم: مي عاشور

"السعادة العادية يمكن التعبير عنها دوما وأما السعادة الحقيقية الغامرة فلا يمكن أن يشعر بها الآخرون، وإن السعادة والحزن كلاهما نوع من الوحدة."

—— سان ماو

بكين 26 مايو 2021 (شينخوانت) سافرت الكاتبة التايوانية سان ماو إلى 59 دولة، ولكنها في النهاية اختارت الذهاب إلى الصحراء الغربية في المغرب والبقاء فيها لفترة من الزمن، وتحديداً في مدينة العيون، ألهمتها الصحراء مجدداً، وصارت جزءاً من كتابتها، بل وواحدة من أهم محطات حياتها. ومن خلال هذا المقال سأقدم للقارئ لمحات من حياة الكاتبة والرحالة سان ماو.

لابد من بداية لهذا الأمر

ولدت سان ماو في مدينة تشونغتشينغ في الصين عام 1943، وبعدها انتقلت لتعيش مع عائلتها في تايوان. وكانت شغوفة بالقراءة منذ صغرها؛ تحكي سان ماو أنها ذات يوم وقفت في مواجهة باب المدرسة، وفكرت مليا، وسألت نفسها: "ما الذي أفعله بالضبط؟، كيف لا أملك جسارة السعي وراء الأشياء الشغوفة بها؟، ما الذي يصبرني على هذا المكان؟". وكان التلاميذ قد وصلوا إلى باب المدرسة، فمدت بصرها إلى هناك وجال في خاطرها: "هذا المكان ليس لي، فلأمضِ من هنا". وبعدها استقلت حافلة لتجد نفسها متجهة إلى حدائق المدافن، نعم كانت سان ماو تقرأ في حدائق المدافن؛ لأنها وجدتها أماكن ساكنة الأجواء تصلح للقراءة.

والتحقت سان ماو بالجامعة الصينية للثقافة في تايوان، قسم الفلسفة عام 1963، واعجبت بشاب في قسم المسرح يكبرها بصف، وسمعت أنه شاب موهوب صدر له كتابان، وفي الحال قرأتهما، فوقعت في غرامه أكثر. وتتبعته سان ماو أينما ذهب، حتى صار وجهها مألوفاً بالنسبة له، ولكنه رغم ذلك لم يبادر بالحديث إليها، فقالت سان ماو في قرارة نفسها: "لابد من بداية لهذا الأمر، فإن لم يبدأ فكيف يمكن له أن ينتهى". ذات يوم رأت سان ماو هذا الشاب، فتقدمت صوبه، ووقفت أمامه، وسحبت من جيب قميصه القلم، وكتبت على كف يده رقم هاتفها، دون أن تتفوه بكلمة، ثم عادت إلى البيت، وانتظرت بجوار الهاتف، حتى اتصل بها الشاب في النهاية، وحدد معها موعد للقاء في الساعة السابعة- هذا ما وصفته تماماً في القصيدة التي كتبتها تحت عنوان "الساعة السابعة"- ومن ثم بدأت قصة الحب بينهما، والتي استمرت لعامين، وانتهت بالفشل، ولكن هذا الفشل فتح أمامها طريقاً للسفر، وكانت وجهتها الأولى هي أسبانيا للدراسة في جامعة مدريد.

 السفر والقراءة نجمتان

في حفل ليلة رأس السنة، في بيت إحدى صديقاتها، تعرفت سان ماو على شاب أسباني اسمه خوسيه يصغرها بثمان سنوات، سرعان ما تحولا إلى صديقين، لكن كان الأمر مختلفا تماماً بالنسبة له؛ لأنه وقع في حبها، وذات يوم عرض عليها الزواج، فردت عليه سان ماو كما حكت في إحدى ندواتها: "اعتباراً من اليوم، لا تأت للبحث عني". ولماذا قلت له مثل هذا الكلام؟ ؛ لأنه كان جالساً إلى جواري وقال لي بمنتهى الجدية: "انتظريني ست سنوات، حتى أدرس أربع سنوات بالجامعة، ثم ألتحق بالجيش لسنتين، وبعد ست سنوات يمكننا أن نتزوج. ما أحلم به طيلة حياتي هو أن يصبح لي بيت صغير، وبه زوجة مثلك، وأسعى أنا لكسب المال لأنفقه عليك، فهذا أسعد حلم في حياتي كلها." ثم قال: "أنا لا أشعر بالدفء العائلي في بيتي."، عندما سمعت حلمه هذا، تملكتني بغتة رغبة ملحة في البكاء. قلت له: "خوسيه، أنت لم تتجاوز الثامنة عشر، وأنا أكبر منكَ بكثير، أتمنى ألا تحلم هذا الحلم ثانية، ومن اليوم فصاعداً، لا تأت لرؤيتي. إذا وقفت تحت هذه الشجرة مرة أخرى ، فلن أخرج إليك، لأن في الواقع ست سنوات فترة زمنية طويلة جداً، وأنا لا أعرف أين سأكون حينذاك، وكذلك ليس بمقدوري انتظارك ست سنوات".

وبعد تخرج سان ماو في جامعة مدريد، غادرت أسبانيا وسافرت إلى أوروبا وأمريكا، وتقول: "إن حياتي مقتصرة على شيئين: السفر والقراءة، فهما ولعي طالما حييت، وكذلك نجمتان كبيرتان في حياتي".

وتعود سان ماو عام 1970 مرة أخرى للتدريس في تايوان، وهناك ينبض قلبها بالحب مجدداً، وتتعرف على أستاذ ألماني، ويتفقان عل الزواج، ولكن قبل الزفاف بليلة يتوفى حبيبها إثر أزمة قلبية. وتحاول سان ماو الانتحار ولكنها تنجو، وتبدأ من جديد الإستعداد للسفر وكأنها تداوي به جروحها. وفي الأخير وبترتيب من القدر كما تقول سان ماو، تعود ثانية إلى أسبانيا تماماً بعد ست سنوات، وتلتقي بخوسيه، وتكتشف أنه لم ينسها أبداً، فتوافق على الزواج منه.

حياتي الكتابية هي حياتي العاطفية

"أنا مجرد ربة منزل، لا أدري منذ متى اعتبرني الناس كاتبة. وأنا لا اعتاد هذا التغير أبداً، بل وأشعر أنني عاجزة على تحمل مسؤوليته". هكذا تقول سان ماو بكل تواضع. وتحكي أن المادة الوحيدة التي كانت متفوقة فيها في المدرسة كانت مادة التعبير، فقد برعت في الكتابة في سن مبكرة، ففي الصف الخامس الإبتدائي، لو كانت هناك كلمة ستلقيها في مناسبة ما، يكون متن الكلمة من كتابتها، كما أن الأنشطة المتعلقة بالكتابة في المدرسة كنت لا تخلو من مقالات لها، وتحكي أنها مرة أبكت أستاذها، حينما اخبرته أنها يتيمة، وكتبت نصا من 5000 رمز تحت عنوان "مذكرات شريدة"، وتقول أيضاً أنه كان في الفصل على الأقل عشرة موضوعات تعبير هي التي كتبتها؛ لأنها كانت تساعد زملائها الذين لا يستطيعون الكتابة. ونشرت سان ماو كتاباتها وهي في التاسعة عشر من عمرها.

ويطلق على كتابات سان ماو "أدب الرحلات"، فهي لا تكتب الرواية أو القصة، ولكنها تكتب النثر الواقعي المستمد من حياتها، وتقول: "معظم مقالاتي على طراز أدب السيرة، وكل ما أنشره قطعاً حقيقي". وكذلك تقول: "حياتي الكتابية هي حياتي العاطفية، فنظرتي للحياة، هي نظرتي للحب".

قصص الصحراء

عندما رأت سان ماو صورة للصحراء، فُتنت بها، وحلمت بالذهاب إلى هناك، فتقول: "في بداية مجيئي إلى الصحراء، تمنيت أن أكون أول مستكشفة تقطعها في العالم. وهذه الأمور، لطالما أطارت النوم من عيني وأنا أفكر فيها بأوروبا؛ لأن الصحراء ليست منطقة متحضرة، أن كل خبراتي السابقة في الأسفار، ستكون بلا جدوى هناك على الأرجح".

واختارت سان ماو مدينة العيون -أكبر مدن الصحراء الغربية- فهناك تزوجت خوسيه، وعاشت معه لست سنوات، وكذلك عادت إلى الكتابة بعد انقطاع دام عشر سنوات.

وتقول سان ماو :" ذات يوم بينما أنا في بيتي في الصحراء، شعرت أن بوسعي الكتابة مجدداً"، نُشر ما كتبته بعد 10 أيام فقط من إرساله إلى الصحيفة، وهو الشيء الذي لم تتوقعه أبداً، فذهبت إلى موقع عمل زوجها لتبشره. وتصف شعورها حينذاك: "كان يوماً سعيداً جداً، مستحيل أنساه حتى الآن، فأول مقال أنشره بعد عشر سنوات، يكون في الصحراء، وليس بها سوى شخص واحد يمكنني مشاركته معه، وهذا الشخص لن يفهم ما كتب في مقالي، ولكنني كنت في أوج سعادة غامرة، مثل طفل يتراقص في الصحراء". 

وقالت سان ماو لولا الحرية والحب والثقة التي منحهم إياها زوجها، لما استطاعت أن تؤلف كتاباً واحداً. وتقول أيضا معبرة له عن حبها: "رغم أنني كنت أعيش في الصحراء، ولكن لماذا وأنا بقربه كان كل ما تراه عيني أزهاراً تنبض بالجمال".

ونشرت سان ماو كتابها الأشهر: "قصص الصحراء" عام 1976، والذي أتمنى ترجمته، وهو مقتطفات من حياتها التي دونتها في الصحراء، كتبت فيه عن العادات والتقاليد وطباع الناس هناك، وعن علاقتها بهم، ومختلف المواقف التي تعرضت لها، ووصفت الأماكن والشوارع والأعراس، وكتبت كيف تحولت من شخص غريب إلى صديقة أندمجت مع الناس وفي الحياة هناك.

وكتبت أيضاً أنها كانت تُعلم الفتيات الصغيرات في بيتها، وتعالج النساء لأنهن يرفضن الذهاب إلى المشفى لكون الطبيب هناك رجل، وذكرت أنها بحثت في الطب الصيني لمساعدتهم، وكيف أصبحت بمثابة معلمة وممرضة وطبيبة بفضلهم. ودونت كل ما رأته وعاشته.

وكتبت عن حب الأطفال لها، وتحكي أنهم في بداية الأمر كانوا يتحلقون حولها كلما تخرج ويطلبون منها المال، ولكن عندما قالت لهم أنها لو أعطتهم المال، لن تملك دفع أجرة البيت الذي تسكنه، وسترحل من هنا. فتوقف الأطفال عن مضايقتها، خوفا من رحيلها...

والغريب أن هذا الكتاب أثر بصورة مدهشة في العديد من القراء في بر الصين الرئيسي وتايوان، وقَرأتُ تدوينات عدداً منهم عن رحلاتهم إلى مدينة "العيون"، وشاهدت أيضاً أفلاماً قصيرة عن ذهابهم إلى بيت سان ماو هناك، والذي لا يزال موجوداً حتى اليوم.

وفي رأيي أن هذا الكتاب دليل على مدى قدرة الإنسان على التأقلم؛ فكاتبة جابت العالم، ولكنها في النهاية اختارت البقاء في الصحراء، أثرت فيها وتأثرت بها. وعاشت وسط ظروفها البدائية والبسيطة والقاسية، الفترة الأسعد من حياتها.

كلانا من رحل

كانت الصدمة الكبرى في حياة سان ماو هي الرحيل المفاجئ لخوسيه سنة 1980، والذي مات غرقاً. وعبرت عن حزنها الشديد عليه قائلة: "من دُفن هو أنتَ، وكذلك أنا. ولكن كلانا من رحل".

وكتبت سان ماو عن خوسيه في العديد من أعمالها، ومن أشهرها نص "عصفور لا يموت".

وعادت سان ماو عام 1979 لتستقر في تايوان، وقدمت سلسلة من الندوات المتنوعة، وأصدرت عام 1985 ألبوماً غنائياً يحمل 11 أغنية من تأليفها، تحت عنوان: "صدى"، والذي لا يقل أهمية عن كتبها، ليس لأنها كتبت هذه القصائد فحسب، بل لأن ما كتبته يرمز إلى حياتها، فقد كتبت عن حبها الأول، وسفرها وترحالها، وعن زوجها...

ودخلت سان ماو في عام 1991 المشفى لإجراء عملية جراحية، ولكن المفاجأة الكبرى أنه قبل خروجها بيوم فارقت الحياة، وقيل أنها اختارت إنهاء حياتها، ولكن هناك علامات استفهام حول تفاصيل موتها. وما تركته سان ماو من أعمال محى تماماً غيابها، فهي حاضرة بقوة رغم مرور ثلاثين عاماً على رحيلها.

الصور

010020070790000000000000011101451399705921